آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » برج بابل وبرج زايد: أُمّتان؟

برج بابل وبرج زايد: أُمّتان؟

 

رأي عبد الامير الركابي

 

إنّ ما استحصلته منطقة الشرق المتوسطي العربي من الطور المنقضي إلى الآن من تاريخ الانقلاب الآلي، هو الانتقال من حضارة الأنهار الابتدائية البدئية على مستوى المعمورة، إلى ريعية الآبار النفطية، أو هكذا وصلت حتى الآن بانتظار الاحتمالات المضمرة للحركة التاريخية. فيوم عرفت أوروبا الآلة والتحولات التي رافقتها من متغيّرات «حداثية»، كان انعكاس الحدث المذكور وما ترتّب عليه ونتج عنه من حصيلة هيمنية، رغبة (نهضوية زائفة) طمحت للالتحاق بالمنجز الغربي، كان محور تشكّلها مصر وساحل الشام، وتبعهما العراق، الأمر الطبيعي والبديهي، فالمنطقة المشار إليها هي بالأحرى منطقة حضارة الأنهار، النهر الواحد النيلي، والنهرين العراقيين، وهنا بدأت الحضارة البشرية التي يغفل وصفها بالنهرية أرضوياً كيانوياً مجتمعياً، كما سماوياً إبراهيمياً.بلا أدنى شك، صار واضحاً اليوم أن ما تقدّم شكّل استجابة وردّة فعل على النهوض الغربي الحديث على الطرف الآخر من المتوسط، قد أثبت بأن الأصول النهرية وما ينتج عنها من بنية وتكوين لا تتفاعل مع مقتضيات الانقلابية الآلية المجتمعية حسب النمطية الأوروبية، وأنّ ما كان ممكناً حدوثه بالأحرى هو لحظة تاريخية حصيلتها «موت الأنهار»، الأمر القائم اليوم في مصر بسبب تعاظم عدد السكان وتجاوزه حدود قدرة النيل على الفعل المجتمعي المتناسب مع الانقلابية المستجدة وشروطها بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلّق بمجرى النهر والبلدان التي يمرّ فيها. هذا في وقت يصبح العراق على مشارف التصحّر، ما قد أوقف عملياً فعل الآليات التاريخية البيئية، من دون أن تترك أيّ آثار يمكن تبيّنها بأي شكل كان على مستوى الوعي، الأمر المثير لأقصى ما يمكن من الاستغراب، مع أنه قد أورث أخيراً حالة من الانغلاق المتردّي وانعدام الرؤية الشامل.

على منقلب آخر، كان لا بد من الانتباه لما كان قد أورثه منتج غير إنتاجي، وغير دالّ على فعالية تكوينية حضارية، لا بل هو أقرب إلى أن يتمثّل بما يضاد الكينونة التاريخية؛ مثل ما قد حصل في الجزيرة العربية بسبب النفط. العامل الذي جعل «آل سعود» يصبحون حكاماً على يد الإنكليز فيأتون بهم من منفاهم في الكويت بعد هزيمتهم، لنصبح أمام «ملكية» لم تعرفها الجزيرة العربية في تاريخها منذ وجدت على الأرض، باعتبار هذا الموضع كيانية لا دولة أحادية، محكومة لاقتصاد الغزو والاحترابية القصوى الملازمة له وللمجتمع المسلح، مع كونها «طلع لا يحكم» كما يقول عنها أهلها، فإذا بنا أمام «دولة ريعية»، وجودها مرهون بقلب طبيعة المجتمع الاحترابي التاريخي إلى مجتمع منزوع السلاح، يعيش على موارد النفط الموزّعة هرمياً على القبائل من قبل الحاكم، الأمر المناقض للإسلام أعظم ثورة كونيّة عرفها المكان ودولته العقيدية المتعدية للقبلية والمخضعة لها.

تعمّ حالة من التأزم الفوضوي، في حين تتناسل دول الآبار على أطراف القاعدة الجزيرية الأساس الأكبر، لنتعرّف تباعاً إلى عالم آخذ بالحضور يُحِلّ محل، ويرث، «حضارة الأنهار» التأسيسية الكونية: «حضارة الآبار»

 

إذاً، يُدمّر العراق ويُسحق ويُزال ككيان على يد الكيانية الإمبراطورية الأميركية المفقّسة خارج رحم التاريخ، ولا يبقى من مصر «هبة النيل / هيرودوت» أيّ آليات وطنية فعّالة. لتعم حالة من التأزم الفوضوي، في حين تتناسل دول الآبار على أطراف القاعدة الجزيرية الأساس الأكبر، لنتعرّف تباعاً إلى عالم آخذ بالحضور يُحِلّ محل، ويرث، «حضارة الأنهار» التأسيسية الكونية: «حضارة الآبار». وبدل الأهرامات وبرج بابل، الجد الأعلى للأبراج على مستوى التاريخ البشري، والجنائن المعلقة، يصير لدينا فجأة «برج زايد» المصنوع على يد آخرين، و«دولة قناة الجزيرة»، لا بل وتُفبرَك إبراهيميّة «ترامبوصهيونية». مع حلم مزج الريع النفطي بالتكنولوجيا الإسرائيلية، من أهم مرتكزاته النفي الكلي، والإسقاط، لأيّ ملامح أو دالّات خصوصية تاريخية، بالذات على مستوى احتمالية المستقبل، أو ما يمكن وصفه بانبعاثية ما بعد الأنهار النهرية.

المهم، لا بل الأهم، في اللوحة، ما تتمتّع به تلفيقيّة حضارة الآبار وجهدها التطبيعي والإبراهيمي المزوّر، كونها تعيش حالة تفرّد نموذجي، وجوده عملي الفعل يسبق الفكرة الغائبة أو ما يعرف بالدعاية. فإذا ذهبَت بلاد برج زايد إلى شراء أرض الأهرام، وقاربت التحكّم بكل مسارات وضعها الاقتصادي، فإنّ ما يعرف بالصحافة أو السوشال ميديا المصرية المعروفة تاريخياً بحضورها المميّز، لا تكون موجودة. ما يعني بالأحرى أنّ المنطقة يحكمها ما يمكن أن يطلق عليه «اللاتشخيص»، وهو الأخطر من بين ظواهر اللحظة المَعيشة، والمتأتّي من هزيمة الإحيائية النهضوية، وما هو مترتّب عليها، بالأخصّ في الجانب التصوّري. فما كان بدأ مع الأفغاني ومحمد عبده وما تبعهما، بلغ حالة الموت من دون محاولة تعوّض أو إشارة، بما جعل المنطقة خرساء اليوم بلا نطقية ولا إفصاح دالّ على المعاش، إلا ما هو في عداد التسجيل اليومي غير المقرون بـ، أو المحال إلى، رؤية شاملة بأيةّ درجه كانت.

والمؤكد أنّ مثل هذا التعبير لم يأت، أو أنه لم يعرف، النضج اللازم على مستوى المعاينة والنظر إلى ما وراء اللحظة، الأمر الذي يتطلب شمولية غير عادية تصل إلى حد الكونية الغائرة في الماضي والحاضر. والنهضويون المندحرون الصامتون اليوم، ليس بيدهم ما يمكن أن يتيح لهم الاستمرار. فالأمر صار بالأحرى مرهوناً بانطلاقة مستجدة محورها ما بعدهم، قائم على نظر مغاير ومختلف إلى الغرب ونهضته الآلية البرجوازية الحديثة، وإسقاطاتها، وحصيلة التماهي معها ونتائجها، وما آل إليه في موضع من العالم بعينه خارج ما كان متصوراً، أو تكرّس كمعتقد نهائي يقول بإمكان تمثّل الانقلابية الأوروبية في العالم الشرق متوسطي العربي، وهو ما انتهى إلى الخراب والتفتت الراهن، حد الخروج من دائرة الفعل.

إذا كان وارداً بأي شكل الاعتقاد باحتمالية الاستمرارية التاريخية في العالم الشرق متوسطي، أساس البدئية التاريخية المجتمعية على مستوى المعمورة، فهو، كما واضح ومرجّح، سيكون بلا أدنى شك من نوع ونمط ينتمي إلى «النهوضية الحداثية الثانية». فالمنطقة انتبهت إلى النهوض الغربي الحديث ابتداء لتتماهى معه وتتبعه («لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا؟») لتنتهي إلى الخراب الشامل وتوقّف الآليات التاريخية عن العمل. بينما تمكّن الغرب، بوجوده الموضوعي وما أنتجه من ناحية تخطيطه وفعله إلى محاولة إقامة تعبيرية عن المنطقة، من ما يعرف بالنهضة «الملتحقة كلّياً» بالغرب ونموذجه، بافتعاله نماذج «دول الآبار»، والتشبّه الكاريكاتوري بالمنجز التاريخي البدئي النهري، إيحاء. فالشعور بالإفلاس واللاحيثية وحتى الوجود، هو ما يمكن أن يضعنا اليوم أمام «برج زايد»، وإبراهيمية ترامب الصهيونية.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حرب النقاط…

  باسل علي الخطيب نعم، هذه الحرب لا تربح بالضربة القاضية، هذه حرب النقاط… على فكرة هذه هي المدرسة السورية في إدارة الصراع مع الكيان ...