غسان كامل ونوس *
لم تكن الحرب العدوانيّة الضارية، التي شنّت على سوريّة – ولا تزال- بداية الاستهداف؛ لكنّها -ربّما- فاقت كلّ ما مضى من عدوانات؛ لتعدّد مسمّياتها، وتنوّع عناصرها، وأشكالها، وأدواتها، وكثرة المتورّطين فيها داخليّاً وخارجيّاً، منذ ما ينوف على عقد من الزمن؛ لتدمير الحاضر، والتشويش على الماضي، وضرب المستقبل؛ بمحاولة النيل من الدولة، والشعب، والمقدّرات، والتنمية، والنهوض، والمواقف المساندة لحركات التحرّر من هيمنة الاستعمار وأعوانه، ومواجهة الكيان الصهيونيّ، ورفض جميع محاولات التقارب والتنسيق والتطبيع معه، السريّة منها والعلنيّة؛ ولن تكون نهاية هذه الحرب، التي نأمل أنّها وشيكة؛ نرجو ذلك، ونعتقد، ويُفترض أن نجدّ في العمل من أجله؛ لتغور هذه الفصول القارصة، والسنوات الغاصّة بالقهر والحزن والألم والضيق والصبر والتصابر، مع تنوّع الممارسات المادّيّة والمعنويّة ضدّ الوطن، ومواطنيه، وممتلكاتهم، وإنجازاتهم التي تحقّقت بالكفاح والبذل والجهد والتضحية، وتعدّد أساليب الترهيب، والتضليل، والترغيب، والتيئيس.. سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وإعلاميّاً..
يجب ألّا ننسى ذلك، وتاريخنا القريب والبعيد، يشهد على مثل هذه المواجهات.. ويجب ألّا ندّخر وقتاً وجهداً ونفْساً ونفَساً؛ في سبيل استرداد كامل التراب الوطنيّ من محتلّيه بجنسيّاتهم المتعدّدة، حتّى من ذوي القربى، وهذا يشكّل عنواناً أكيداً لكلّ مشروع وطنيّ، ولا يمكن التنازل عنه، أو التفريط به، أو التغاضي عنه، من أجل تكريس السيادة والكرامة والوطنيّة؛ كما أنّ إحكام إغلاق الحفر والثغرات والشروخ، وبلسمة الجروح، وترميم الصدوع، التي تفاقمت في النفوس والأجساد، وعلاج الأذيّات، في الذاكرة والوعي والمعتقدات، والاهتزاز الذي طرأ على الانتماءات، والتخلّص من الشوائب، التي علقت في القناعات والبديهيّات، والاهتمام بإيجاد إجابات يقينيّة على التساؤلات، التي تعمّقت وتعمّمت: لماذا؟! وكيف؟! ومتى؟! وإلامَ؟! على الرغم من أنّ كثيراً من الأجوبة ليس عصيّاً؛ على عكس التعامل مع منعكساتها، وتبعاتها، وآثارها على الفرد والمجتمع، وعلى المؤسّسات والهيئات والأحزاب والتجمّعات… ويفترض، مع هذا كلّه، ألّا تكون الرؤى قاتمة، أو مشوّشة، أو معكّرة. أو على الأقلّ، ألّا تبقى كذلك مدّة طويلة، وليس من اليسير، بعد كلّ ما جرى من موبقات، وبعد كلّ ما قدّم من تضحيات، وما تجسّد من استبسالات، وتبدّى من مبادرات إيجابيّة، ومواقف مشرّفة، من مختلف الشرائح والأطياف، وفي مختلف الأماكن والمناطق والجهات، أن تكون الخطا واثقة، والسموت سليمة، والسبل موصلة إلى إنجازات، تؤدّي إلى أكثر من تعويض ما فات، وما يبدو أنّه قد لا يعوّض من وقتٍ وطاقات..
لكنّ كلّ ما كان، وما يزال، يُفترض أن يتمّ تجاوزه، وأن نستعيد المبادرة النهضويّة والتحرّريّة والفكريّة.. على أسسٍ أكثر رسوخاً، وقيمٍ أكثر ثباتاً، ومعايير أكثر وضوحاً، وعوامل أكثر إسهاماً، واستقطاب مختلف الجهود والإمكانيّات لدى المواطنين الشرفاء الصامدين الصابرين، أو لدى من عاد إليه الوعي، واستعاد سمت البوصلة الصحيح، وتواضع قليلاً أو كثيراً بشأن حماسته المتهوّرة، أو اندفاعته الطائشة؛ ومن الضروريّ أن يتمّ ذلك، مع عدم الشكّ والتشكيك في حسن النوايا، وسلامة الوصول؛ على الرغم من فداحة الخسائر، وجسامة التضحيات، وضعف المعطيات، والضبابيّة الواقعيّة أو المفتعلة، أو عدم وجود الإشارات الكافية للعبور الأمين؛ والاعتماد الواثق بأنّ الأمور واضحة، والظروف معتادة، والشعارات حاضرة، والنتائج أكيدة؛ وهي طامّة الطامّات..
إنّ الوقوف بجرأة وشجاعة، عندما كان؛ تحليلاً واعياً لا منفعلاً، عقليّاً لا عاطفيّاً، يجعل أمر تدبّر الحال أكثر يسراً، والتخطيط للمستقبل أكثر حيويّة وفاعليّة، وفي مختلف المجالات، والمنعطفات، والمطبّات، والمنزلقات، من دون أن نطيل الوقوف أكثر ممّا ينبغي؛ لأنّنا نحتاج إلى كلّ ثانية وطاقة وإمكانيّة، ومن دون مراعاة أحد، أو تجاهل أمر ملحّ، أو التغافل عن نكران وجحود وتخاذل، ولا تمكن المراهنة على الولاءات النظريّة، والعلاقات المصطنعة، والعقليّات المدجّنة، والغيرة المفاجئة والمبرمجة، ولا يمكن البقاء على الوتيرة نفسها من الحركة، ولا الاعتماد على العناصر نفسها في مواقع القرار والإنتاج، ولا يمكن غضّ النظر عن أيّ ممّا يأتي:
– الاغتراب داخل الوطن وخارجه.
– الطاقات المهدورة أو المغيّبة، أو المنكفئة، أو المغادرة..
– الشباب الذين عايشوا الكارثة، وتأثّروا بها في بيئاتهم أو في بيئات أخرى؛ مادّيّاً ومعنويّاً..
– المزاودين الذين ينطبق عليهم المثل «مكره أخاك لا بطل»، ولهم في كلّ نصر قوس!
– المناهج والأسس والمبادئ، التي ينبني عليها الوعي الثقافيّ والمعرفيّ والوطنيّ..
– الثقافة؛ الحصن المنيع للأفراد والجماعات.
– هناك فرق بين القائلين بالأمر، والقائمين به أو عليه؛ فقد يكون القول صحيحاً وله فرسانه، والممارسة المطلوبة تتطلّب فرساناً آخرين..
– لا تمكن إضاعة الكثير في إعادة تجريب من افتقد الحيويّة والمبادرة، والإمكانيّة، والقابليّة، والرغبة، والقناعة.. وكان منه ما كان من ترهّل، وتخبّط، وتريّث، وانتظار ما سيحدث، وتمترس وراء كلمات، وشعارات، ومظاهر، وولاءات، وانتماءات، ومشاركات وارتباكات ونفوذ..
من المهمّ جدّاً الاهتمام بالأفكار البنّاءة الناتجة عن علم وخبرة، وحرص على الأنفس والأرض، والتعامل مع الإمكانيّات الحاضرة، وتلك التي يمكن أن تتوافر، مع إتاحة المجال لها لكي تظهر، وتأخذ دوراً في صياغة المشروع الوطنيّ المتماسك؛ كما أنّ من الضروريّ إفساح المنابر للآراء الدافئة المعبّرة عن روح وثّابة، ورغبة ملحّة في التقدّم، والتخلّص من أدران الماضي، والتكامل في الميادين المتنوّعة، والخروج بعقليّة منفتحة على مختلف التوجّهات، التي يمكن أن يوافَق بينها، أو يمايَز، وأخذ الأصلح، ونقد النفس والآخر، مع الاستماع إلى من يريد الإصلاح، ومن يعمل من أجله، بنفس نقيّة، وروح رضيّة.
إنّ من يمكن أن يقوم بكلّ هذا العمل المطلوب، ليس شخصاً لوحده، ولا شريحة محدّدة، ولا مجموعة بذاتها، ولا وزارة بعينها، أو مؤسّسة، أو مديريّة… إنّه مسؤوليّة جماعيّة؛ مع استثمار دور القيادة القادرة على اتّخاذ القرارات الصائبة الأكثر ضرورة لمرحلة تتطلّب اختصار المراحل، واجتراع الحلول، وابتداع النواتج المطّردة، التي تساعد على التسارع البنّاء، والاستيثاق والاقتداء… إنّ الاهتمام بالقيام بالإجراءات الأساسيّة المسؤولة، في الظروف العاديّة والمعقّدة، والمواقف القارّة والمتبدّلة، والاستحقاقات الوطنيّة، التي تحلّ مواعيدها ومناسباتها، أمر ضروريّ؛ لأنّه سياديّ ومصيريّ ووجوديّ؛ بصرف النظر عن صرخات المتضرّرين، وضجيج المحبطين، وتيئيس المفلسين…
لعلّ من نتيجة كلّ ذلك، تشكيل شخصيّة فاعلة أو تحصينها، لتغدو متماسكة، واثقة، قادرة على المضيّ إلى الأمام، بكثير من التفاؤل، والعزم، والرغبة، والقابليّة للتطوّر والتفتّح والانسجام، والتصحيح لكلّ الخُطا التي يمكن أن تنحرف، والسبل التي يمكن أن تحيد، والبوصلة التي يمكن أن تتعطّل أو تتعثّر، أو تضلّ، أو تتكلّس، أو تتشتّت، أو تتنافر مع السموت الحضاريّة، والتوجّهات المخلصة أو المُنجية، في زمن الصراعات المتشارسة، والمناوشات القريبة والبعيدة، والتكتّلات المصلحيّة، والتباينات الرؤيويّة، والتعويم الفضائيّ المؤثّر؛ الموهم، والمنفرط، والمتوزّع، والمتناثر، والمتباعد عن أصول تحافظ على اتّصاله الأرضيّ كيلا يتبدّد، أو انتمائه الإنسانيّ كيلا يتجرّد، مع النزوع إلى التفرّد أو التمرّد، أو الخروج إلى ما هو مجهول أو مشكوك فيه، من حقّ الاحتفاظ بالمغامرات المحسوبة والقفزات المطلوبة.. مع ضرورة التعامل مع منجزات العصر المطّردة، وإمكانيّات التخلّق والتطوّر، والتسارع، والتكامل، والتواصل، والاعتماد على أيّ فكرة أو خبرة أو معلومة، يمكن إنتاجها، أو البحث عنها في أركان المعمورة، والحصول عليها بجهد، يقلّ أو ويعظم، وحاجةٍ تتضاعف إلى الجديد، والتجدّد، والصراحة، والشفافيّة، والحذر، والوعي، والتخلّص من التخبّط المضيّع، والانجراف المدمّر، والوقوع في الهوامش المشاكسة، والمرغّبات المضاربة، والخلّبيّات المراوغة، التي تقضي على الوقت الأثمن، والإمكانيّة الأوفر..
لا شكّ في أنّ هناك أملاً بالمستقبل القريب والبعيد، يفترض ألّا يغيب عن أذهاننا، وأنّ هناك توقاً إليه، وشغفاً بمراودته؛ لكنّ نيل ذلك لا يأتي بالتمنّي، ومجرّد تصوّره أو توهّمه، أو التفكير فيه، ولا بدّ من عملٍ حثيث على إنجازه وتحقيقه على أرض الواقع..
* كاتب وشاعر وقاص
(سيرياهوم نيوز-الثورة25-5-2021)