| سعيد محمد
بعد أكثر من عقْد على اعتماد سياسات التقشّف وما نتج منها من تفاقم للفجوة بين الدخول، طرحت رئيسة الوزراء البريطانية، ليز تراس، موازنة بدت أشبه بـ«إعلان حرب» على الفقراء والأقل حظّاً لمصلحة الأقلية الثرية، وذلك في ظلّ أزمة تضخّم متصاعدة وركود اقتصادي يُرجَّح أن يستمرّ لسنوات. موازنةٌ موجزة لم يكد وزير الخزانة، كواسي كوارتنغ، يعلن عنها في مجلس العموم، حتى ترنّح الجنيه الإسترليني في أسواق المال، ووصل إلى أدنى مستوياته في 37 عاماً
لندن | لم يَطُل استغراق البريطانيين في أوهام العظمة والاستثناء والوحدة الوطنية التي بثّتها النخبة الحاكمة خلال فترة الحداد التي أعقبت وفاة الملكة إليزابيث الثانية. وسريعاً، عادت المملكة المتحدة إلى واقع أنها تعيش واحدة من أكثر الفترات المشحونة منذ الحرب العالمية الثانية: الاقتصاد على حافة الركود، ومستويات معيشة آخذة في الانخفاض، فيما ترزح الخدمات العامة تحت وطأة ضغوط متزايدة. ومع عودة البرلمان إلى الانعقاد، كشفت حكومة ليز تراس عن موازنتها القصيرة الأجل للتعامل مع حال الطوارئ الاقتصادية التي تفاقمت بشكل حادّ نتيجةَ انعكاسات الصراع الأميركي – الروسي في أوكرانيا.
اختارت حكومة تراس اليمينية المتطرّفة علاجاً واضحاً ومحدّداً للأزمة: النمو الاقتصادي السريع
وبحسب التقديرات، فإن العبء الذي ستتحمّله الموازنة العامّة لتغطية هذه السياسة الاقتصادية – مضافاً إليها التزام تراس بدعم أوكرانيا ماليّاً وعسكريّاً – قد يصل في مجموعه إلى ما يقارب الـ200 مليار جنيه إسترليني (حوالى 220 مليار دولار أميركي)، وهو ما ستتمّ تغطيته من خلال الاستدانة وطبع المزيد من الجنيهات. وتتمتّع المملكة المتحدة بحرية مالية أكبر من دول منطقة اليورو، إذ تستطيع الاقتراض بعملتها الخاصة، وطبع الجنيهات دون الرجوع إلى أيّ سلطة، كما هو الحال على البرّ الأوروبي مثلاً. وقد أثار إعلان الموازنة شعوراً بالصدمة ليس على المستوى الشعبي فحسب، وإنما أيضاً في أوساط المال والأعمال في لندن، وبنك إنكلترا المركزي وحتى بين نواب «حزب المحافظين» الحاكم ونواب المعارضة على حدّ سواء، حيث تشارَك الجميع يوماً محموماً من القلق وتبادل التشكيك في استدامة النهج الاقتصادي الجديد للحكومة البريطانية. واستجابت الأسواق سريعاً، فارتفعت تكاليف الإقراض بشكل حادّ، وترنّح سعر صرف الإسترليني أمام الدولار حتى نزل في تداولات محمومة إلى أقلّ من مستوى دولار واحد وتسعة سنتات، وهو أدنى مستوى تاريخي له منذ 37 عاماً (1985). لكنّ كوارتنغ دافع عن الخطّة المالية لحكومة تراس، مشيراً إلى أن «المقامرة الكبرى كانت في الاستمرار على سياسة الضرائب المرتفعة والنمو المنخفض»، وسخر من ردة فعل الأسواق التي اعتبرها تتحرّك طوال الوقت، منادياً بـ«الحفاظ على الهدوء، والتركيز على الاستراتيجية الطويلة الأجل»، وادّعى بأن لديه استراتيجية لخفض الدَّين كحصّة من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المُتوسط. لكنّ هذه الادعاءات بدت غير مستندة إلى أيّ تقييم اقتصادي متّزن، إذ سيكون الاقتراض الجديد لتمويل التخفيضات الضريبية وتغطية تكاليف فرض سقوف على فاتورة الطاقة أكثر تكلفة بالنسبة إلى المملكة المتحدة، مع ارتفاع تكلفة الاقتراض لمدة عامين إلى 4% (مقارنة بـ0.4% قبل عام)، وسَعْي المستثمرين إلى التخلّص من السندات الحكومية. وسيتعيّن على الحكومة اقتراض عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية لتمويل إجراءاتها، في الوقت الذي يرفع فيه بنك إنكلترا أسعار الفائدة، في محاولته لكبح جماح التضخّم المتصاعد.
الخيارات الأيديولوجيّة لحكومة تراس القائمة على إطلاق حرية السوق إلى أقصاها، ونموذج الدولة الرشيقة، وتحفيز رؤوس الأموال الكبيرة، تبدو جميعها في غير وقتها، إنْ كان داخليّاً أو على المستوى العالمي. وليس لدى السيدة التي أوصلها إلى المنصب التنفيذي الأهمّ في هيكيلة السلطة أقل من 0.17% من الناخبين أيّ نيّة، كما تأكد، في السعي إلى تحسين الخدمات العامة أو مواجهة التباينات الفادحة بين الطبقات وبين الأقاليم، أو الحفاظ على التماسك الاجتماعي بين مواطني المملكة.