اقترن حي ساروجة بأذهان من عشق دمشق بجمالها وأصالتها التي تحكي على لسان أبنائها ما تناقلوه من إرث عريق نجد له صدى في حارة صغيرة عرفت بزقاق الورد تحتضن ورشة لصناعة العود تجعل المارة يتوقفون عند الأنغام المنبعثة منها ويحركهم الفضول لدخولها.
الورشة انطلقت إلى حيز الوجود كمشروع تنموي إنساني لجمعية الوفاء التنموية على شكل حاضنة للحرفي بشار جودت الحلبي الذي تعرضت ورشته للتدمير خلال سنوات الحرب الارهابية على سورية.
بداية تعلم بشار لهذه المهنة كانت مع والده صانع العود الدمشقي الراحل جودت الحلبي إلى أن استقل عنه عام 1985 فأسس أول ورشة له في لبنان عام 1990 تلتها ورشته الثانية في منطقة داريا ولكن بعد أن دمرت خلال الحرب انتقل عمله إلى منزله ليحصل بعد ذلك على دعم جمعية الوفاء التي تهتم بإعادة إحياء المهن التراثية ومساعدة الحرفيين الذين تضررت ورشاتهم جراء الإرهاب.
وحول اختياره لزقاق الورد مكانا لورشته ذكر أن هذا المكان احتضن صناعة العود الدمشقي منذ عام 1920 حيث ظهر كامتداد لحي القيمرية الذي انطلق منه معظم صناع العود الدمشقيين.
ويزاوج بشار في ورشته بين ترميم الأعواد القديمة وتصنيع الحديثة كما يحتفظ فيها بمجموعة كبيرة لصانع العود وشيخ الكار الراحل عبدو نحات تعود لأعوام 1900 و 1913 كما عمل على إصلاح أقدم عود صنعه نحات ويعود تاريخه لعام 1881.
ويتحدث بشار عن شغفه بهذه الصناعة وعشقه لها والتي يحاول إعادة إحيائها من جديد محافظا على طابعها وشكلها الأساسي ومراعيا اختياره لأقدم أنواع الخشب مع محاكاة الشكل القديم بزخارفه ونماذجه والأهم بقالب العود وصوته الخاص.
رغم صغر ورشة بشار إلا أنها باتت مكتملة التجهيزات وتضم كل مراحل صناعة العود بدءا من ظهره الذي يعد اهم الخطوات وصولا إلى وجهه الذي هو مصدر خروج النغمات بما فيها العوارض ومقاساتها التي تحقق الصوت الطربي القديم إضافة إلى صناعة الزند والمفاتيح وجميعها تعد من اساسيات العزف.
ويستخدم بشار في صناعة العود أخشاب الورد والحور والابنوس والمشمش التي اشتهرت بها غوطة دمشق إلا أن الاستخدام الشائع فيها هو خشب الجوز المخمر وذلك لقابليته للتطويع وألوانه المتدرجة والصوت الصادر عنه والذي يعتبر من أحن الأصوات وأجملها.
نقل بشار هذه الصنعة لأبنائه ولاسيما ابنه خالد الذي أوصلها إلى كندا فأسس هنالك ورشته الخاصة لينافس العود الدمشقي الأعواد الموجودة في العالم ويؤكد بشار أنه رغم وجود مدارس مختلفة لصناعة العود تتنافس
فيما بينها وتحمل هوية بلدانها من عراقية ومصرية وإيرانية وتركية لكن المدرسة الدمشقية هي التي تملك الأسرار الشرقية الطربية الأساسية.
ولا يزال بشار يحتفظ من إرث والده ببطاقة تذكارية بخط السيدة أم كلثوم قدمتها له عام 1955 بمناسبة صناعته عودا خاصا لها حيث نحت على زنده عبارة (لا يعرف المرء في عصره) في إشارة إلى أن المبدعين لا يأخذون حقهم إلا بعد رحيلهم مبينا أن هذا العود موجود بمتحفها في القاهرة.
ويعرب بشار عن أمله بتأسيس مدارس مهنية متخصصة تعلم المبادئ الأساسية لهذه الصناعة وخاصة أن هناك كثيرين ممن يرغبون بتعلمها من جيل الشباب الذين يجب أن يتحلوا بالصبر والمثابرة والشغف في تعلمها.
يذكر أن العود هو أحد أقدم الآلات الشرقية وتعتبر سورية مهدا له حيث عثر على دلائل أثرية تاريخية في الشمال السوري تعود إلى 5000 عام احتوت نقوشا حجرية تمثل نساء يقمن بالعزف على هذه الآلة كما دخلت صناعة العود والعزف عليه في صميم العديد من الطقوس والمناسبات وبات له دوره في جمع السوريين ونقل تفاصيل من حياتهم وأحلامهم عبر الأجيال دون التخلي عن أصالته ليغدو العود عنصرا رئيسيا في التراث الثقافي غير المادي وأحد مرتكزات هويتنا الحضارية.
رشا محفوض