هيثم مناع
في اليومين الماضيين التقى قرابة ٤٠٠ سورية وسوري بين حضور فيزيائي وافتراضي، في أول اجتماع جمع السوريين والسوريات من كل المناطق السورية ولكن أيضا من كل القارات، ومن كل الملل والنحل المجتمعية والسياسية.
كان اللقاء بحد ذاته حدثا استثنائيا… فمنذ هرب المجرم الغلام ودخل أبناء الجنوب دمشق، ثم خرجوا منها تفاديا لهدر المزيد من الدم السوري، واستلام غرفة العمليات العسكرية السلطة في دمشق، كانت الاجتماعات التي تجري والقرارات التي تتخذ وشبه الجيش الذي يتشكل والجهاز الأمني القادم من إمارة إدلب والحكومة التي تسيّر الأمور ومؤتمر النصر، من لون مذهبي واحد، والطامة الكبرى، أن هذا الفريق، لا يمثل من يدعي تمثيله “أهل السنة”، بل تشكل بالأساس من أكثر أبناء السنة تطرفا ودموية، وكان أكثر من كفّر من هذه الجماعة الإسمية بشرا، وقد صفّى في وضح النهار فصائل عسكرية كاملة منها، بالاستعانة بآلاف الجحاديين القادمين من أصقاع الأرض. ومن المضحكات المبكيات، أن محاكمه “الشرعية” في قرابة 90 بالمئة من أحكامها كانت بحق من يدّعي رفع المظلومية عنهم، ولم نجد في قوائم سجونه الأحد عشر، سوى بضعة أشخاص من غير “السنة”.
صباح 15 شباط 2025، فتحتً الهاتف لأجد التهديد المئة: عليك “إلغاء هذا الاجتماع لأن ثمن انعقاده سيكون غاليا”… فأغلقت الهاتف يومين تجنبا لقراءة تفاهات اعتدت عليها منذ عقود. كان أول من عانقت عند وصولي مجد الخير، الابن الوحيد لأخي ورفيق العمر الدكتور عبد العزيز الخير، الذي اختطفته المخابرات الجوية في 20 سبتمبر 2012… أبو المجد، الذي قضى في سجن صيدنايا 12 عاما، كان في المعتقل طبيب السجن لغياب التطبيب عن السجناء، وعالج كل السجناء بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني. ثم تتالت الصور أمام عيني، هذا محام وقف في وجه محاكم الإرهاب ثم اعتقل وحوكم من أشباه المحاكم الأسدية، وذاك يحمل توثيقا بأوضاع المخيمات التي تجاوز عدد المقيمين فيها شرق وغرب الفرات النصف مليون، ضحايا للعمليات العسكرية التركية المباشرة أو بالوكالة، وفتاة في ريع الشباب تبتسم لتخفي دموعها تسلمني رسالة من أم فقدت زوجها وابنيها، وخبير دولي متقاعد وزوجته جاء ليقول أنا في خدمة سماكم (السيادة، المواطنة والانتقال الديمقراطي)…
خلال يومين، كان كل مشارك ومشاركة يحمل قصته الخاصة وتجربته المريرة في مناهضة الاستبداد الأسدي. ولكن كل من حضر وشارك، كان يمثل سورية التي تشبهنا جميعا، سوريا التعايش والتفاعل الحضاري بين مختلف القوميات: عرب وكرد وسريان وأرمن وتركمان…، وكان أيضا من أبناء كل الأديان والطوائف، التي منحتنا اسم سوريا منذ ما قبل المسيح إلى اليوم… كانت حديقة الثقافات المختلفة التي تمكنت الأرض السورية من التعبير عنها في أجمل الصور”…
رغم سعادة اللقاء، كان الألم يعتصر في وجدان المشاركين والمشاركات، فمعظم من شارك، كان يحمل أوجاع صور أرسلت له من أهله وشهادات تدمي القلب. وحرص كلما جاءت استراحة لأن يطمئن على أهله في سوريا..
كان الافتتاح بدقيقة صمت على أرواح الشهداء، ومن من الحاضرين لم يكن في عائلته شهيدا أو أكثر. وبعد كلمة السويداء ودمشق والساحل، أبصرت عدة أشخاص يخفون دموعهم…
لقد توافقنا على غياب الصحافة والصحفيين، وأغلقت هاتفي كل من طلب حديثا أو مقابلة. فالمشهد الحقيقي أمامنا لا يحتمل تفاهات الصحافة التي تحولت للأسف إلى المصنع الأكبر لصناعة الكذب وتدنيس الوعي. كنا نعيش لحظات وجدانية وعقلانية خاصة، لا يجوز تدنيسها بخطاب التفاهة السائد… يحاول كل شخص منا أن يتمتع بكلمة المواطنة تحت سقف هويتنا الوطنية السورية…
أعمال هذا الاجتماع ستصدر في كتاب جماعي يكون هدية لكل مواطن ومواطنة في مطلع شهر رمضان الكريم. أما بعثات التحقيق فيما يجري مع سيادة خطاب الكراهية والانتقام فتبدأ عملها قبل ذلك، ومدارس التأهيل على توفير الاحتياجات العاجلة لكل مواطن فقد انطلقت مع البيان الختامي…
لأول مرة في تاريخ سوريا، تكون أولى المخرجات تشكيل “لجنة المتابعة الإنسانية وحقوق الإنسان” ثم جرى النقاش في لجنة وطنية موسعة من أجل بناء أوسع قطب ديمقراطي في عموم البلاد. 57 شخصا من خيرة كوادر المجتمع المدني السوري يباشرون منذ اليوم العمل من أجل فعل ما يمكن من أجل أهلنا الذين يعانون في أبسط الحقوق الإنسانية من مأوى وعلاج ولقمة خبز. وينضم لهم العشرات من المنظمات الحقوقية والإنسانية… عدة بعثات تحقيق، اثنتان منهما باشرا العمل والباقي سيلحق بهم، ورشات عمل ستعمل على تعزيز ثقافة السلم الأهلي ومناهضة خطاب الكراهية والتحريض… سيضع الحقوقيون كل الانتهاكات التي تقع تحت المجهر، ولكن أيضا لن يكون للإفلات من العقاب مكان.
بناء الطاقات والكوادر السورية مهمة كل قادر على الإسهام في ذلك، تكوين أوسع فريق من أكثر القضاة والمحامين والحقوقيين نزاهة وخبرة، أصبح أكثر من ضروري، في وقت يجري فيه اغتيال الحريات النقابية في وضح النهار ويحاول البعض تنصيب التكفيريين قضاة وشرعيين على السوريين والسوريات.
لن نترك التسونامي الجيو سياسي والمجتمعي الحالي يُغرق أهلنا في أوحال الحقد والتعصب والتكفير، ولن ننتظر النجدة، ولا نريدها من أحد. ورغم ضلوع عدد من السوريين في لعبة الأمم ومشروع تحطيم سوريا بلدا وشعبا، فلن ينجحوا في انتزاع حقنا في الأمل
عاشت سوريا الحرة الواحدة والموحدة في ظل دولة المواطنة لكل أبنائها
ستشرق الشمس من جديد فوق كل سحب الظلام والظلاميين
(أخبار سوريا الوطن ١-صفحة الكاتب)ر