| حسني محلي
في حال تحقّقت المصالحة التي تسعى لها روسيا والصين، فسوف تجبر الكيان الصهيوني الَّذي لطالما استغلّ خلافات المنطقة على التفكير في صيغة جديدة من العلاقات الإقليمية.
من المبكر جداً الحديث عن النتائج المحتملة للاتفاق الإيراني السعودي بشقيه الثنائي والعام، انطلاقاً من حسابات الدولتين الخاصة المدعومة بثقل وأهمية بالغة في مجمل المعطيات الإقليمية والدولية.
يذكر الجميع أنّ المملكة، بعد اللقاء الأول بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود في 14 شباط/فبراير 1945، سخّرت كل إمكانياتها الجغرافية والنفطية والدينية والطائفية خدمة للمشاريع والمخططات الإمبريالية والاستعمارية والصهيونية، وهي التي تصدت للمد القومي العربي الناصري، ثم تآمرت على الثورة الإسلامية في إيران من منطلقات طائفية، بتعليمات من واشنطن وحلفائها في “تل أبيب” ولندن وباريس وغيرهما.
وكان الإسلام السياسي، بشقّيه المعتدل والمتطرف، سلاح آل سعود الفتاك ضد كل من يعادي المشاريع والمخططات الإمبريالية في المنطقة، بدءاً من مواجهة ما يسمى الخطر الشيوعي في أفغانستان والمنطقة، مروراً بتنظيم “القاعدة”، وانتهاءً بالتصدي لدول المقاومة وشعوبها وقواها في سوريا ولبنان واليمن والمنطقة عموماً، كما هي الحال قبل سنوات ما يسمى بـ”الربيع العربي” وخلاله.
جاء الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية رد فعل سعودياً على معاملة واشنطن المهينة لولي العهد محمد بن سلمان بعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018.
وقد استغلَّ الرئيس بوتين آنذاك هذا الفتور والتوتر في العلاقة بين الرياض وواشنطن، وفتح باب الحوار والتنسيق والتعاون على مصراعيه مع محمد بن سلمان بعد زيارته الرياض في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وهو ما سبق أن فعله الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي استضاف محمد بن سلمان في بكين في 22 شباط/فبراير 2019.
وجاءت زيارة بينغ إلى الرياض في 8 و9 كانون الأول/ديسمبر الماضي للمشاركة في القمة الصينية السعودية، والصينية الخليجية، ثم الصينية العربية، تتويجاً للانفتاح الصيني على السعودية، وعبرها على المنطقة عموماً.
وكان الانفتاح الروسي والصيني على محمد بن سلمان، معاً أو كل على حدة، كافياً بالنسبة إليه كي يرد الجميل لبوتين وبينغ، اللذين لم تكن علاقاتهما مع بكين على حساب أحد، بل على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمعاملة بالندّ التي كانت غائبة دائماً في علاقات الأميركيين مع آل سعود، وقبلهم لندن.
وجاءت التطورات الإقليمية والدولية بعد فشل المشروع الإمبريالي والصهيوني خلال سنوات “الربيع العربي” الدموي، وصمود سوريا ولبنان بدعم من إيران وروسيا، وأخيراً تصدي الشعب اليمني للعدوان السعودي والإماراتي، ليدفع السعودية، ولو بشيء من الدلال والمماطلة، إلى إعادة النظر في مجمل سياساتها الإقليمية والدولية، وهو ما انعكس على موقفها حيال الحرب في أوكرانيا على الرغم من الضغوط الأميركية والغربية.
الإنجاز الصّيني في تحقيق المصالحة بين الرياض وطهران، إن نجح، سينعكس على مجمل التطورات الإقليمية، باعتبار أن إيران والسعودية من أهم الدول التي تؤثر في هذه المعطيات، ليس طائفياً فحسب، كما يراها البعض، بل أيضاً إستراتيجياً، نظراً إلى موقع الدولتين الجغرافي المهم الذي يتحكم في نحو 60% من حجم التجارة النفطية، وبنسبة أعلى في التجارة الدولية والإقليمية التي تمر من مضيقي هرمز وباب المندب، وبالتالي على امتداد السواحل السعودية واليمنية على البحر الأحمر المهم بالنسبة إلى الكيان الصهيوني.
ومع انتظار الموقف الصادق والثابت لحكام السعودية لإتمام فصول الخطة الصينية، يراهن الكثيرون على سياسات الرياض، أولاً في اليمن، ثم لبنان والعراق، ولكن الأهم في سوريا، نظراً إلى انعكاسات ذلك على مجمل معادلات المنطقة التي وضعت موسكو من أجلها حسابات أخرى تبدأ في تركيا وتنتهي فيها.
ويعرف الجميع أنَّ الرئيس بوتين صبر كثيراً في حواره مع الرئيس إردوغان لإقناعه بضرورة المصالحة مع الرئيس الأسد، وهو ما فشل فيه أكثر من مرة، إلى أن حالفه الحظ في كسب الرياض والقاهرة وأبو ظبي إلى جانبه.
يفسّر ذلك استعجال إردوغان في مصالحة حكام هذه العواصم بعدما قال عنهم ما لا يقال شخصياً وسياسياً. وقد جاءت التطورات الأخيرة لتؤكد صحة الحسابات التركية، إذ أجرى الزعماء العرب، وأهمهم المصري والجزائري والإماراتي، ومعهم الإيراني، اتصالات هاتفية مع الرئيس الأسد، ليعلنوا تضامنهم معه ومع سوريا خلال أزمة الزلزال الذي صادف بآلامه ومآسيه التحركات الصينية والروسية لتشجيع دول المنطقة على فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع بعضها البعض، بعيداً من التدخلات الإمبريالية والاستعمارية التقليدية التي حققت مصالحها باستعداء دول المنطقة وشعوبها بعضها للبعض، كما هي الحال منذ عشرات السنين.
وبتحقيق مثل هذه المصالحة التي تسعى إليها موسكو وبكين، التي دخلت إلى المنطقة بهذا الثقل للمرة الأولى، فقد يحالف الحظ دولها لوضع حد نهائي لخلافاتها، وبالتالي عداءاتها وصراعاتها التي اعتدناها جميعاً، وهو ما سيعني وضع أسس جديدة للعلاقات الثنائية والجماعية، أهمها السلام والأمن والاستقرار والتنمية وسعادة كل الشعوب بكل أطيافها القومية والدينية والطائفية.
في حال تحقق هذا الأمر، فسوف يجبر الكيان الصهيوني الذي لطالما استغل خلافات المنطقة على التراجع عن سياساته العدوانية والإجرامية والتفكير في صيغة جديدة في العلاقات الإقليمية بعدما خسر حليفه الإستراتيجي واشنطن، التي تعدّ الآن في وضع لا يحسد عليه أبداً في مواجهة التفوق الروسي والصيني النفسي في المنطقة.
هذا الأمر هو ما ساعد طهران للاستفادة من هذا التفوق في جميع المجالات، وعلى كل الصعد والمستويات التي ترى فيها “تل أبيب” انتكاسة مصيرية بالنسبة إليها، بعدما فشلت في جميع مخططاتها ومشاريعها ضد إيران وحلفائها في المنطقة، كما فشلت في مواجهة الغضب الشعبي الفلسطيني الذي وضع الكيان الصهيوني أمام تحديات يعترف بها قادة هذا الكيان.
ويبقى الرهان على ما سيحققه الرئيس بوتين في مساعيه لجمع إردوغان والرئيس الأسد، ليدعم بذلك مسار المصالحة السعودية –الإيرانية، التي يعرف الجميع أنها ستنعكس بشكل أو بآخر على حسابات الرئيس إردوغان الخاصة بسوريا، وخصوصاً بعد زيارة رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي وقائد القيادة الوسطى للجيش الأميركي (سنتكوم) مايكل كوريلا شمال شرقي سوريا، ولقائهما قيادات قسد، وخصوصاً الكرد منهم، وهو ما أزعج الرئيس إردوغان الذي أرسل مستشاره والمتحدث باسمه إبراهيم كالين إلى واشنطن لبحث هذا الموضوع ومجمل التفاصيل الخاصة بالسياسة التركية حيال التطورات الأخيرة.
كلّ ذلك مع استمرار الحديث عن مساومات، ولاحقاً صفقات محتملة بين إردوغان وبايدن، قد تضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بالقرارات المحتملة التي قد تتخذها أنقرة بالاتفاق مع واشنطن أو من دونه، مع استمرار الضغوط الأميركية على إردوغان لإقناعه أو إجباره على الابتعاد عن صديقه الرئيس بوتين في مقابل إغراءات قد يقتنع بها إردوغان عشية الانتخابات التي ستجري في 14 أيار/مايو، والتي تتوقع الاستطلاعات خسارته فيها.
هذا بالطبع ما لم يحظَ بالمزيد من الدعم من موسكو وطهران وعواصم الخليج الغنية التي إن اتفق معها في موضوع المصالحة مع الرئيس الأسد وصورة المصافحة معه فقد تساعده للفوز من جديد، بعد أن يظهر بمظهر المنتصر أو على الأقل الناجح في سياساته الخارجية، بانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي، وبشكل خاص أزمة اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلادهم التي سيكون من أهم المواد التي ستتحدث عنها المعارضة في حملتها الانتخابية ضده.
وفي جميع الحالات، ومع الحديث عن المزيد من الانفتاح على دمشق، واحتمال اقتراب الحل العملي للأزمة الداخلية في لبنان، والمزيد من المصالحات بين طهران وكل من القاهرة وطرابلس والمنامة وعمان، وأخيراً أبو ظبي، يعرف الجميع أن المفاجأة الكبرى بعد كل هذه التحركات المهمة ستكون لقاء إردوغان والأسد.
ويتوقع البعض لهذا اللقاء أن يكون بعد لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وسوريا نهاية الشهر الجاري. وبنجاحه، ستكون القمة السورية -التركية أواسط نيسان/أبريل المقبل “برجاء” خاص من طهران وموسكو، وبمباركة مصرية خليجية. وهو الموضوع الذي سافر من أجله الرئيس الأسد إلى موسكو ولقائه الرئيس بوتين مع استمرار الضغوط العربية على إردوغان كي يتراجع عن كلّ ما قاله وتبنّاه وفعله على طريق الإسلام السياسي، المعتدل منه والمتطرف، خلال سنوات “الربيع العربي”، الذي كان اللاعب الرئيسي فيه، إلى جانب دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية.
وفي حال تخلت المملكة عن أحاديثها الطائفية، وهو ما قد يفعله محمد بن سلمان لضمان مستقبله السياسي إلى الأبد، فعلى الجميع، وفي مقدمتهم إردوغان، إن بقي في السلطة، أن يستعدوا لمرحلة تاريخية مثيرة في تاريخ المنطقة، وهذه المرة بروايات صينية روسية مشتركة سنرى ترجمتها على الواقع بعد مئات السنين من الروايات الغربية الصليبية واليهودية التي دفع الجميع ثمنها غالياً، كما هي الحال في “الربيع العربي”…
حينها، ستصدق المقولة العربية: “رب ضارة نافعة”، التي علمتنا جميعاً الكثير من التاريخ، فعسى أن “يستخلص البعض منه ما يكفي من الدروس حتى لا يكرر نفسه”، كما قال كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف، الذي يعدّ الرئيس إردوغان من أشد المعجبين به.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين