من الصعب التنبّؤ بكيفية تأثير الانسحاب الأميركي في البيئة السياسية للعراق، لأن كثيراً من الأمور يتوقّف على ما تراه القوى السياسية.
يمكن اعتبار عام 2021 عامَ العراق بامتياز، فلقد حدثت تحوُّلات قادت إلى وضع اتفاقات بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية في شهر تموز/يوليو الماضي من أجل إتمام الانسحاب العسكري في مدة أقصاها أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر الحالي.
ستكون الولايات المتحدة أكملت انسحابها رسمياً وظاهرياً من العراق قبل انقضاء العام، لكن هل سيؤثر الانسحاب الأميركي المقبل في الوضع في العراق، سياسياً وأمنياً، وهل سيؤدي إلى تغيير حقيقي في الأرض، أم سيكون الانسحاب رمزياً؟ سيبقى ما يقرب من 2000ـ2500 جندي أميركي في البلاد، بعد تحوّل المهمة الأميركية إلى عملية تدريب وعملية استشارية. ويعتبر المحللون الأميركيون أن دور هذه القوات المتبقية لن يتغير، إلى حد كبير، فهي الآن ليست في مهمة قتالية، لكن لا يزال التفويض القانوني المحلي للوجود القتالي الأميركي في العراق موجوداً منذ عام 2001. ويرون أنه، على عكس انسحاب عام 2011، من المرجَّح أن تظل الولايات المتحدة منخرطة بعمق في مراقبة التهديد الإرهابي من تنظيم “داعش”، وأنّ من غير المرجَّح أن تفصل إدارة بايدن نفسها عن الوضع الأمني في العراق.
من الصعب التنبّؤ بكيفية تأثير الانسحاب الأميركي المقبل في البيئة السياسية للعراق، لأن كثيراً من الأمور يتوقّف على ما تراه القوى السياسية. هل هي لحظة تغيير؟ وهل ستضطر إلى العمل على توحيد رؤيتها بشأن ضرورة الإصلاح، ووضع البلاد في السكّتين الاقتصادية والإدارية، وماهية علاقاتها الخارجية وتحالفاتها؟ الوجود التدريبي الأميركي غير منفصل عن دوره السياسي. لا تزال واشنطن في صراع مع إيران، جارة العراق، والتي تتمتع بتأثير قوي داخل البلاد. واشنطن راهنت على إضعاف هذا الدور، وراهنت أيضاً على نتائج الانتخابات التشريعية، التي لم تأتِ لمصلحة مَن تعتبرهم في تحالف مع إيران.
إلى أين يتّجه العراق بعد الانتخابات التشريعية؟
خلطت نتائج الانتخابات التشريعية الأوراق في العراق، وطرحت السؤال: إلى أين يتّجه العراق؟ لم يكن مشهد التنافس في المحافظات ذات الأغلبية السنية مغايراً، بصورة كبيرة، لما جرى في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، بينما بلغت الاستقطابات السياسية قمتها بين المتنافسين الرئيسيين.
حصل التيار الصدري، الذي يتزعَّمه مقتدى الصدر، على الحصة الأكبر من مقاعد البرلمان، وفاز بـ73 مقعداً، يليه في الصدارة تحالف “تقدّم الوطني” برئاسة محمد الحلبوسي، وفاز بـ37 مقعداً، ثم كتلة “دولة القانون”، برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وحصلت على 33 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي نال 31 مقعداً، يليه “تحالف الفتح”، برئاسة هادي العامري، وفاز بـ17 مقعداً، بعد أن كان حلّ في المرتبة الثانية برصيد 48 مقعداً في الانتخابات السابقة عام 2018. كانت مفاجأة بتحقيق حزبين يمثّلان ساحات التظاهر 15 مقعداً، وفقاً للنتائج الأولية، هما حزب امتداد وإشراقة كانون.
جاءت نتائج الانتخابات صادمة لكثير من الكتل السياسية. كان تحالف الفتح يراهن على سمعة الحشد الشعبي الذي هَزَم، جنباً إلى جنب القوات الحكومية، تنظيم “داعش” الإرهابي، وحرّر أراضيَ كان يحتلّها التنظيم. طالب تحالف الفتح بإعادة العدّ والفرز اليدويَّين في جميع مراكز الاقتراع، أمّا أنصاره فتجمّعوا للتظاهر عند بوابات “المنطقة الخضراء”، التي تضم مقرَّ الحكومة العراقية وسط العاصمة بغداد. ودعا رئيسُ “ائتلاف النصر”، رئيسُ الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، مفوضيةَ الانتخابات إلى حسم إشكاليات الاقتراع في البلاد التي أربكت الوضع العام. وأفاد في بيان بأن “الأهم من الربح والخسارة الانتخابيَّين هو السِّلْم والوحدة الوطنية، وسلامة النظام السياسي الممثّل للشعب وصلاحه”.
وفقاً لتحليل معهد “تشاتام هاوس” في لندن، فإنّ تحالف الفتح، الممثّل للحشد الشعبي والحليف القوي لطهران، أحرز نحو 670 ألف صوت في الانتخابات التي جرت في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بينما حصل الصدريون على 650 ألفاً. وعلى الرغم من أن نتيجة الانتخابات ربما تشير إلى زيادة شعبية التيار الصدري في مقابل تراجع الدعم الشعبي لتحالف الفتح، فإن إجمالي عدد الأصوات الذي حصل عليه الطرفان يكشف أن تحالف الفتح لم يعتمد استراتيجية انتخابية تتوافق مع ماهية القانون الانتخابي، فذهبت الأصوات هباءً. كما أن كل فصيل من الفصائل طرح مرشحه، فتشتت أصوات الناخبين. وأظهرت الماكينة الانتخابية عدم معرفة بشأن تفاصيل القانون الذي يحتّم الدقة في قراءة الدوائر الانتخابية وشروط الترشح.
كل ذلك في الوقت الذي تعامل التيار الصدري بصورة دقيقة مع القانون، وتدرَّبت ماكينته الانتخابية على استخدام الرسائل الإلكترونية من أجل التواصل مع المقترعين والمرشحين. أمّا على الصعيد السياسي، فعمل التيار الصدري على كسب العراقيين، عبر طرح القضايا التي لها علاقة بالناس ومشكلاتهم المعيشية، ولاسيما في الجنوب، الذي خرجت منه الاحتجاجات الشبابية التي وقفت ضد الفساد، ومع بناء الدولة، وضد الطائفية. وهو، كتيار، يتمتّع بشعبية كبيرة في الداخل العراقي، ساعدته كثيراً على تحقيق الفوز. وهناك عامل أساسي ساعد أيضاً على تحقيق هذا الفوز، وهو تغيير قانون الانتخابات، والاعتماد على الدوائر الانتخابية المتعددة، والتنسيق والتنظيم اللذين ظهرا جليَّين في الانتخابات، واللذين أدّيا أيضاً إلى جني الثمار عبر حصد 73 مقعداً.
لكن، على الرغم من تحقيق الكتلة الصدرية انتصاراً، فإنها لا تستطيع أن تمتلك الحق الدستوري في تمثيل الكتلة الأكثر عدداً إلاّ بعد أن تتحالف مع كتل أخرى، ككتلة “تقدم”، بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، والكتلة الكردية برئاسة الزعيم الكردي مسعود البارزاني، إضافة إلى كتل أخرى. والتقى الصدر العامري من أجل التوافق السياسي وتلافي التوتر بعد رفض نتيجة الانتخابات، واتّفقا على مبادئ إصلاحية وأخرى ضد الهدر وضد التطبيع مع “إسرائيل”، ومن أجل دعم الحشد.
في هذه الأثناء، أكد زعيم الكتلة الصدرية، التي تصدّرت الانتخابات في العراق، مقتدى الصدر، أن الحل الوحيد لمشاكل العراق هو “تشكيل حكومة أغلبية وطنية للمرحلة المقبلة”.
تجدر الإشارة إلى أن النظام الديمقراطي في العراق نظام توافقي، بحيث يكون لكل القوى الممثَّلة في البرلمان مقاعد في الحكومة، فالحكومة صورة مصغَّرة عن البرلمان. لكن الاختلاف، هذه المرة، هو في أن الانتخابات أفرزت ثلاث قوى رئيسة، ستغيّر في الأدوار والحصص في الحكومة وإدارات الدولة.
كان السفير الإيراني في العراق واضحاً في القول إن إيران لا ترى أي دليل على التزوير في الانتخابات. من الواضح أن لإيران نفوذاً في العراق، كذلك فإن لديها رأياً في اختيار رئيس الوزراء. لكن المشكلة هي داخل المجتمع الشيعي وانقساماته بشأن رؤيته للدور الإيراني في البلاد. فهناك مَن لا يتقبّل الدور الإيراني، وهناك مَن هو حليف له، ومن المؤكد إن إيران تلحظ الأمر وتُوْليه أهمية.
وأعلن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، تأييد بلاده حلاً “قانونياً وشفّافاً” للأزمة الناتجة من الانتخابات التشريعية في العراق، واعتبر أن مبدأ الانتخابات إنجاز مهم لدعم سيادة الشعب العراقي. وأضاف “لطالما أكدنا ضرورة تحديد مصير الشعوب عبر صناديق الاقتراع. وبناءً عليه، نرحّب بكل السبل الكفيلة بحلّ جميع المشاكل من خلال طريقة قانونية وشفافة”. وكان رئيسي شدّد، خلال الاتصال برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، على أن “وحدة العراق وسلامة أراضيه أمر استراتيجي لا يجب المساس به”، مجدّداً “استمرار مواقف إيران الداعمة للحكومة والشعب العراقيَّين”.
بعد محاولة الاغتيال التي تعرَّض لها الكاظمي، زار العميد إسماعيل قاآني، قائد قوة القدس، بغداد بعد ساعات منها، والتقى شخصيات ومسؤولين، بينهم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، واعتبر أنه يجب معاقبة المتورطين في جريمة محاولة الاغتيال.
يرى محللون أن الكاظمي، الذي تولّى منصبه منتصف عام 2020، يسعى لكسب دور وسيط إقليمي في المنطقة، قادر على توفير أرضية لإدارة أزماتها وتباينات المصالح بين مختلف الأطراف النافذين فيها. وزار الكاظمي الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرتين منذ تولّيه منصبه. وخلال الزيارة الأولى، في تموز/يوليو 2020، التقى المرشد الأعلى علي خامنئي. فلا مصلحة لإيران في تقويض العلاقة بالكاظمي، فالرجل يؤدي دوراً في الحوار بين إيران والسعودية ومصر وعدة دول عربية.
الهدف الاستراتيجي لإيران يتمثّل ببقاء الشيعة أقوياء في العراق، لأن البديل سيعني أن الدولة ستخرج من نفوذ إيران، وتتحوّل إلى تهديد لها. نوري المالكي، الذي فاز بثلاثة وثلاثين مقعداً، أي أكثر من الانتخابات السابقة، هو قريب من إيران. كان العامل الإيراني في الانتخابات موجوداً، لكنه لم يغيّر قواعد اللعبة.
أمّا علاقة مقتدى بطهران فهي مرّت في عدة مراحل، وهو السياسي الوحيد الذي حافظ على قاعدته الشعبية. وجزء من ذلك يرجع إلى ثقة أنصاره به. يعرف جيداً أنه من دون إيران لا يمكن أن يكون له نفوذ في العراق، وهو يتقاسم معها العداء للأميركيين
(سيرياهوم نيوز-الميادين24-12-2021)