سِماتٌ كثيرةٌ تجمع بين الأدب الفلسطيني المُوزّع بين الشتات والداخل، على تعدد تسمياته بين المُقاوِم والمُلتزِم والمُسجّل في الزنازين والمُعتقلات، غير أنَّ أسماءً قلّةً صنعت حالةً غير اعتيادية، أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية والعربية، وعلاماتٍ فارقة نقف عندها باستمرار، أمثال “محمود درويش، غسان كنفاني، فدوى طوقان، سميح القاسم، جبرا إبراهيم جبرا”، في حين لا نجد اليوم أسماءً شبيهةً، قادرةً على إثارة الانتباه بمحتوىً فيه من الإبداع والجدّة والاختلاف، بحيث يكون إضافةً حقيقية في الأدبيات الفلسطينية.
ضرورة تاريخية
يرى الكاتب والناقد أحمد علي هلال إنَّ تلك الأسماء مثّلت مراحل تاريخية وتيارات فكرية وسياسية، وكانت مرفوعة على حوامل أهمها الواقع الموضوعي والجهة التي يُمثلّها الأديب، حتى أمكن لها أن تُؤدي دورها في المشهد الثقافي، إضافةً إلى كفاءة موهبتها وثقافتها، لكن هذه الحوامل قلّت اليوم، ليكون السؤال الأخطر حالياً، عمّا يُقدمه الواقع من ضرورةٍ تاريخيةٍ أخرى.
يقول هلال في حديثٍ لـ “تشرين” على هامش مشاركته في ندوة استضافها المركز الثقافي في أبو رمانة تحت عنوان “الأدب والفن والقضية الفلسطينية”: “نحتاج اليوم إلى الانفتاح على كلِّ السرديات والتعبير الإبداعي الذي تكتبه الأجيال، وليس فقط ما كتبه السابقون وآباؤنا الروحيون المثقفون الكبار، يجب أن يُشكّل هذا الجيل امتداداً لأولئك عبر الوعي والثقافة والعمل، هذه حلقة مفقودة للأسف، ونُحاول في المشهد الثقافي جسر الهوة قدر المستطاع، والانفتاح على ثقافة الأجيال الجديدة كضرورة تاريخية تفرض نفسها”.
التطورات المُتسارعة في الحياة السياسية والفكرية والثقافية الفلسطينية تتطلّب حضوراً آخر من الأدب والفنون
رديف للمقاومة
التعاطي الجدي مع المُنتج الأدبي للأقلام الشابة، يوازي الدور المنتظر من الآداب والفنون عامةً، والتي لعبت طويلاً دور المُوثّق والحافظ للوقائع والأحداث والمُجريات، وكانت في السياق نفسه ساحة واسعة للطروحات والتجارب الشخصية تحت عناوين التهجير والمنفى والثورة وما شابه، يُضيف هلال هنا: “التطورات المُتسارعة في الحياة السياسية والفكرية والثقافية الفلسطينية، تتطلّب حضوراً آخر من الأدب والفنون، وأبعد من هذا الطرح السائد زمناً طويلاً، اليوم في ظل ملحمة طوفان الأقصى واستحقاقات الواقع، تغيرت الأدوات والرؤى وآليات النظر للقضية الفلسطينية، بالتالي يجب أن تُغيّر الرواية والقصيدة واللوحة نظرتها لترتقي إلى الدور الفعال كرديف للمقاومة، عليها أن تجهر بثقافة وفكر المقاومة، كما فعل الشهيد غسان كنفاني مثلاً الذي أصدر عدة دراسات قدّم فيها الإنتاجات الأدبية من الأرض المحتلة، والتي كانت صلتها بالعالم العربي انقطعت بعد الاحتلال الصهيوني، وأسس ضمن تشكيلة من الأدباء والمفكرين ما اصطلحنا على تسميته أدب المقاومة”.
الكلمة رصاصة
يُشير هلال إلى أنَّ أدب المقاومة كان رهين سياق تاريخي معين في بعض جوانبه، لكن هذا الأدب/المفهوم لم يعد كذلك أبداً، ولا بدَّ من تغذيته بحوامل جديدة، يتحدث لـ “تشرين”: “أعتقد أن طوفان الأقصى سيلهم الأدباء والمبدعين والفنانين لتجديد مفهوم ثقافة المقاومة والأدب الملتزم، وما كان ملتبساً خلال مراحل من الزمن، أصبح أكثر وضوحاً، الالتزام بالهوية وبمستقبل القضية الفلسطينية، جليٌّ جداً، وهذا يقودنا ثانيةً نحو سؤالٍ على درجةٍ من الأهمية.. أين يقف المثقف الآن؟”.
مُسايرة الحدث الفلسطيني المُتجدد أدبياً يذهب بنا نحو مرحلةٍ تُنافي الجمود الذي وُصِم به الأدب المُلتزم
يقول أيضاً: “الأدوار تغيّرت ويجب أن ننظر إليها بجديةٍ كبيرة تُعادل ما يقوم به المقاومون وأبناء شعبنا في التصدي للمشروع الصهيوني برمته، الدور ليس فقط أخلاقياً ومعرفياً وفكرياً، بل أبعد بكثير، دورٌ يُساوي الوجود، لطالما قلنا إنَّ الكلمة تُعادل الرصاصة لكنَّ الكلمة الآن طلقة وعي، تُعيد تجديد السردية الفلسطينية داخل حقل الثقافة المشتبكة تاريخياً مع الاحتلال الصهيوني.”
مواكبة الحدث
مُسايرة الحدث الفلسطيني المُتجدد والتعاطي معه أدبياً كما يفترض هلال، يذهب بنا نحو مرحلةٍ تُنافي الجمود الذي وُصِم به الأدب المُلتزم في محطاتٍ تاريخية عديدة، بدا فيها غير قادرٍ على مواكبة ما يستجد على الساحة الفلسطينية في القدس والضفة وغزة وغيرها، ومن ثم ارتباطه بالعالم مع توسّع معاني الإبعاد والإقصاء ضد الفلسطيني في الخارج، لكن هذه الفكرة تصدق برأي هلال في الرواية، التي تتأخر قليلاً لأنها لا تستطيع أن تقول كلَّ شيء في فترة الحدث أو خلاله، بينما الشعر والفن التشكيلي والمسرح لها حضورٌ مُتقدّم، وإن كانت الفنون والأجناس الأدبية عامةً لا تُؤدي دوراً مباشراً لكن تنتظر وقتاً حتى ينضج استقبال الإبداع للواقع، بيد أنّ واقع اليوم مُتسارعٌ ومتغيرٌ دائماً، يُوضح هلال: “نحتاج منهجية أعمق وأدوات تفكير مُستحدثة تنعكس على السلوك الجديد للمبدعين والكتّاب، لا يصح اليوم مثلاً أن نتحدث عن ملحمة طوفان الأقصى ونحن نفكر بالماضي، نحن نعيش لحظة فارقة ومفصلاً جديداً، كيف سنعادل هذا المفصل في وعينا؟، بمعنى إعادة ترتيب سرديتنا الفلسطينية التي تنطلق أولاً من الوعي وتخليق أجيال ثقافية لا تنفصل عمّا أسسه السابقون، إنما تستأنف البناء لكن برؤىً مختلفة وأدواتٍ مُبتكرة”.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين