| حاوره: إسماعيل مروة
في القدس كانت اللحظة المختلفة في حياة الفتى إلياس زحلاوي، القادم من دمشق ليسلك في طريق الروح اقتداءً بأحد أقاربه، وبإطلالته على القدس من التلال المطلة عليها كانت علاقته بالمدينة المقدسة، بقسميها المسيحي والإسلامي، وهناك بدأت خطوات الروح، التي استمرت مع القدس حتى حيل بينه وبينها بالاحتلال، لكنك إلى اليوم تستمع إليه وإلى وجدانه، فتشعر القدس حاضرة، وربما اختصرت كل شيء.
برمزيتها ومكانتها وقداستها، وكذلك بعلاقاته والشخصيات التي مرت في حياته الغنية، لذلك يكتشف الجالس مع الأب إلياس زحلاوي سرّ العلاقة التي جمعته مع المطران إيلاريون كبوجي التي جعلته مرجعاً علمياً وروحانياً لرائعة حارس القدس التي سجلت حياة هذا المطران الثائر المختلف، وصاحب الموقف، وقلّ أن نجد في المؤسسات الدينية مثل هذه الروح الثورية، وتستمر العلاقة بين رجلي الروح والفكر كبوجي وزحلاوي، ويقول الأب إلياس: «هو أكبر مني سناً وأقدم في خدمة الكنيسة».
تستمر العلاقة مع شبيبة سورية التي كان الأب إلياس يرعاها، وكان المطران كبوجي يقدم وسائل الدعم للتجربة التي يستحضرها الأب إلياس بحب كما لو كان اليوم أو بالأمس القريب، وبين القدس والمطران كبوجي ذكريات كبيرة لم تنته بوفاة المطران الثائر وتأبين الأب إلياس زحلاوي له، بل هي مستمرة إلى اليوم.
يستحضرها، يذكرها، يتغنى بها، ويخاطب المطران كما لو أنه كان أمامه لم يغادر ليقول بكل لوعة: «المطران كبوجي عاش غريباً ومات غريباً.
«الوطن» تأخذ قارئها مع الأب الجليل إلياس زحلاوي إلى إضاءات جغرافية في القدس، وإضاءات فكرية ووجدانية في حياة المطران وغربته.
جاءت سيرة القدس على لسانك أكثر من مرة، فحدثنا عن علاقتك بهذه المدينة.
يوم كنت طفلاً كنت أسمع أهلي يتحدثون عن الذين يزورون القدس، ولكن يوم اخترت أن أصبح كاهناً وأنا طفل في الثانية عشرة من عمري، كان ذلك في عام 1945 عندما عاد نسيبي من القدس شاباً أنيقاً يرتدي ثوباً أسود جميلاً وصاحب صوت جميل وسيماً يتكلم بهدوء وكانت أمه وهي خالة أمي تحدثني عنه وتقول لي: «يوم كان في عمرك كان شيطاناً مثلك»، وعندما رأيت هذا الشاب تمنيت أن أصبح مثله وسألته هل يمكن أن أصير مثلك؟ فقال لي رافقني إلى الدير فمضيت معه أنا وعشرة أطفال من دمشق، وعندما وصلنا إلى مفترق «أبو ديس» الذي يقع قبل القدس بكيلومتر واحد وهي قرية صغيرة قبل القدس رأيت من تلتها القدس فأحسست بأن هذه المدينة سكنت قلبي، وحتى اليوم لا أدري ما الذي جرى لي عندما شاهدت هذه المدينة، ولست أدري ما الذي سكنني، فحتى اليوم عندما تقال كلمة قدس أمامي أراني طفلاً واقفاً أحدق في القدس.
ومن ثم عشت في القدس لسنة وفي آخرها فجّر فندق الملك داوود فانتقلت المدرسة إلى لبنان وأقمنا خمس سنوات فيها بمكان كان ثكنة فرنسية قدمت لتكون بديلاً من مدرسة القدس، وفي عام 1952 عدت إلى القدس وأقمت فيها عام 1956 ومن ثم حتى1959.
القدس أعرفها حجراً حجراً وأعرف حاراتها وناسها ومزاراتها الإسلامية والمسيحية وجبالها، فحتى اليوم عندما أمضي إلى الأردن وأرى تلال الأردن أشعر وكأنني أتجول في تلال القدس فالتكوين الجغرافي نفسه ولكن شعوري تجاه القدس لا يماثله شيء أبداً.
وأجمل ما في القدس تعايش الناس مع بعضهم البعض فأذكر مثلاً عندما كانوا يخرجون في أسبوع الآلام كان جميع الناس يقفون أمام حوانيتهم بهدوء وصمت.
هل التقيت المطران كبوجي بالقدس؟
كنت أراه في القدس ولكن التقيته في دمشق عام 1952 حين كان كاهناً بها ومسؤولاً عن ريفها، واكتشف فقراً هائلاً بالقرى المجاورة لدمشق وعرف أنني اهتم بشكل كبير بالشبيبة وكنت حينها شاباً صغيراً فطلب مني أن أصطحب معي في كل صيف عدداً من الأطفال الفقراء في ريف دمشق إلى يبرود وأن أمضي معهم ثلاثة أسابيع إلى شهر، وكنا ننام في مدرسة تدعى مدرسة المطران في يبرود وكان المسؤول هناك هو كاهن من الرهبانية التي ينتمي إليها الأب كبوجي وظللت على هذه الحال مدة تسع سنوات، فنشأت بيني وبينه مودة كبيرة جداً.
ما أهم الصفات للمطران كبوجي التي لم يعرضها مسلسل «حارس القدس»؟
الأب كبوجي كان غريباً في كنيسته وكان كالعصفور خارج سربه، سباقاً، وعندما كان يقوم بخدماته في دمشق كان يتعرض لانتقادات واسعة من المؤسسة الكنسية ومن الناس لأنه كان سباقاً مبدعاً وجريئاً جداً، وما فعله في القدس كان يفترض من كثيرين من مطارنة وأساقفة وكهنة أن يفعلوه، وفي وفاته إذا تذكرت كانت الكنيسة بحضور نعشه شبه فارغة وهذا ما قلته أنا في كلمة تأبيني له عاش غريباً لأن التزامه خرج عن نطاق المألوف في الكنيسة.
هل من المفترض في المؤسسة الدينية كنسية كانت أم إسلامية أن يكون رجالها مقيدين؟
كل المؤسسات من دون استثناء تقيد من هم فيها من أعلاهم إلى أدناهم، وإذا شئت أن تستعرض على مدى التاريخ كله نرى الكثير من الثوار الذين قصقصت المؤسسات أجنحتهم وروضتهم، يبقى هناك من يخرج من السرب، مع أن دعوة يسوع تدعو الناس دائماً إلى الخروج من السرب ويكفيني أن أذكر بكلمة واحدة ليسوع «كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل»، الكمال يدعو الإنسان دائماً للخروج عن ماهو مألوف ورتيب وتافه وعاجز بحثاً وراء الأفضل.
هل أعد الأب الياس زحلاوي باكتفائه برتبته وعدم السعي وراء التدرج في الرتب الكنسية والتفرغ للعلم والدعوة وللناس البسطاء من قبيل هذه الثورة؟
أنا أعتقد أنني عندما اخترت يسوع أخترت كل شيء ولم يعد لي رغبة وراء شيء وخصوصاً الرتب الكنسية، لأن التدرج فيها كثيراً ما يفرض عليك تنازلات تمس شخصيتك وتصورك لحياتك واختياراتك لذلك الرتبة التي لا تعني لي شيئاً أبداً والإحساس بالمسؤولية إضافة إلى أدائها هو كل شيء في نظري.
حدثنا قليلاً بكلام الحب من يسوع والأب الياس زحلاوي.
سأتكلم عن يسوع فقط، «ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه فداء عمن يحبه» ومن يؤمن بيسوع يفترض فيه أن يحب كل إنسان، فيوم علّم يسوع تلاميذه الصلاة علّمهم صلاة وحيدة وقال لهم قولوا: «أبونا الذي في السموات» هذا يعني أن كل إنسان هو أخ للإنسان والله أب للجميع، علاجنا هو الحب والعالم اليوم يموت من غياب الحب.
هل ما يشهده العالم اليوم من مثلية وغيرها ابتعاد عن الحب؟
ما يحدث هو تشويه للحب
ما رأيك بما يتم فرضه من الدول للاعتراف بالمثلية وهناك اليوم حركة قوية للعبث بميول الأطفال؟
يعبثون بكل شيء والمثلية وجه من وجوه العبث بكل القيم.
لماذا تصمت المرجعيات الروحية والدينية أمام كل هذا؟ وهل هناك علاقة للكنيسة الإنجيلية بهذا الصمت؟
لا أبدا فصمت الكنيسة يعود إلى تورطها منذ مئات السنوات في الشؤون الزمنية مثلها مثل المؤسسات الزمنية، يسوع قال كلمة مفتاح: «مملكتي ليست من هذا العالم، أنتم في هذا العالم ولستم من هذا العالم لا يمكنكم أن تعبدوا اللـه والمال»، مؤسف أن الكنيسة تورطت منذ مئات السنوات في علاقة مع المؤسسات الزمنية وتحولت إلى علاقة الند بالند وأحياناً تحولت إلى علاقة تفوق وسيطرة، في القرون الوسطى بعض البابوات كانوا يدعون أن السلطة الزمنية على الأرض كلها تابعة لهم وهم ليسوا حكاماً على الأرض بل خدام اللـه على الأرض.
كلمة تتوجه بها إلى الشباب السوري أمام هذه الدعوات الموجودة كالمثلية وغيرها.
لو كنت على بينة أو على اطلاع بحدث جرى بدمشق في أواخر تشرين الثاني عام 1982 في حي متواضع جداً يدعى حي الصوفانية لكنت سمحت لنفسي أن أقول لك بعض ما قالته السيدة العذراء والسيد المسيح في هذا البيت، لكن سأذكر بعض الكلمات التي قالتها السيدة العذراء، أول كلمة قالتها السيدة العذراء في ثاني ظهور لها ليلة 18 كانون الأول عام 1982: «أبنائي اذكروا اللـه لأن اللـه معنا، أنتم تعرفون كل شيء ولا تعرفون شيئاً أحبوا بعضكم بعضاً ولا تعاملوا أحداً بالسوء»، ثم قالت يوم 4 تشرين الثاني عام 1983 قولاً لم يسجل ما يشبهه حيث قالت باللغة العامية: «قلبي احترق على ابني الوحيد مارح يحترق على كل ولادي»، من يومها فهمنا أن سورية ستتعرض لشيء خطير جداً وأن الكثيرين سيموتون ولكن لن يقضى علينا كلنا. «قلبي احترق على ابني الوحيد» نحن في المسيحية نؤمن بصلب يسوع وليس أقسى على قلب الأم من أن ترى ابنها يصلب، والعذراء قالت ذلك لأول مرة في التاريخ وباللغة العربية، لذلك توقعنا الأهوال لكننا كنا على ثقة بخروجنا بثمن غال، ثم جاء السيد المسيح وقال أقوالاً مدهشة وسأكتفي بذكر آخرها يوم 17 نيسان من عام 2014 وكان الداعشيون على بعد مئات الأمتار من هذه الكنيسة حين قال:» الجراح التي نزفت على هذه الأرض هي عينها الجراح التي في جسدي لأن السبب والمسبب واحد ولكن كونوا على ثقة بأن مصيرهم مثل مصير يهوذا»، هذا القول لم يسجل ما يشبهه لا من قريب ولا من بعيد منذ ألفي سنة حتى اليوم.
وهذا الحدث كان له ظهورات تتبعتها الكنيسة وأطباء من كل العالم قدموا، ومن دمشق لاهوتيون درسوا ما حدث ووضعت عشرات الكتب حول الظاهرة، ومن يعرف كيفية تعامل الكنيسة مع هذه الأمور يعرف شدتها وقسوتها، هنا يسوع تكلم ومريم العذراء تكلمت وما قالاه يجب علينا أن نقرأه ونتأمل فيه وأنا أدعو دائماً من هم في دمشق وعلى امتداد العالم للتأمل فيما قالاه السيدة العذراء والسيد المسيح.
في الختام ماذا تقول للسوريين في نهاية الحرب وبداية أزمة أخرى هي أزمة الحياة؟
ما أود قوله قلته مراراً للمسؤولين على مختلف مستوياتهم وستراه في الكتاب، ولكني أود أن أوجز اليوم بكلمات قليلة، ما من بيت إلا والله معه وبالتالي ما من وطن إلا والله معه والثغرات القائمة في أي وطن لا تعالج بإلغاء الوطن، أي أسرة إذا تعرضت لأزمات لا يأتي من يقتل الأب والأم والأولاد باسم خلاص الأسرة. ما جرى في سورية جرى على مستوى العالم لغاية ما إحداها ضمان وجود إسرائيل إلى الأبد، وللأسف وجد في سورية من تورط بل من استغل بعض الثغرات الحقيقية القائمة في البلد لغاية ما وفعل ما فعل بحجج كثيرة منها إصلاح البلد والحرية والديمقراطية وغيرها، ولكنهم في نهاية الأمر أساؤوا لبلدهم أكثر مما أساء إليها كل من أراد أن يدمرها من 140 دولة مع مئات ألوف الجهاديين المزعومين الذين أتوا إلينا.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى العودة إلى حب أفراد الأسرة لبعضهم البعض كفانا تفرقة، كفانا تمييزاً، أنا اليوم أرى في سورية معاناة هائلة لمعظم سكانها في حين القطاع الأصغر يعيش في كوكب آخر في ثراء فاحش ولا يدري ما يجري لدى 90 بالمئة من سكان البلد، ومن موقعي ككاهن على تواصل مع الناس حتى وأنا في الـ90، اليوم أرى الألم يجتاح معظم سكان سورية وأتساءل: هذا الثراء الفاحش الذي نراه لدى القلة لماذا هو قائم حتى اليوم؟ باسم ماذا؟ ولأي غاية؟ أن لم يكن في سبيل الشعب الفقير الذي دفع ثمن بقاء البلد.
لا علاج لنا خارج محبتنا لبعضنا البعض والمحبة تفترض أن يجلس الواحد مع الآخر وأن يضع يده بيد الآخر وأن يقول له أنت تتألم وأنا في البحبوحة لا أريد أن أبقى فيها وحدي بل أريد أن أشاركك، هذا لا يحتاج إلى قرارات حكومية بل إلى قلب يشعر بالآخر، إن كنا حتى اليوم بعد كل ما جرى لنا مما حاول الغرب وعملاؤه أن يفعلوه بنا لم نتعلم أن نحب بعضنا بعضاً وأن ندافع عن بعضنا البعض، وأن نفرح لبعضنا البعض، وأن نكبر ببعضنا البعض، أتساءل ما الذي عساه يساعدنا على أن نبقى أحياء كرماء؟ أتمنى لكلمتي أن تلقى آذاناً صاغية لا لأنها كلمة مني بل لأنها رغبة في الحياة لأبناء وطني ووراء وطني سورية، هناك أوطان عربية أخرى تعاني ما تعانيه ويخبأ لها ما يخبأ وفيها الإنسان يحتاج إلى الاحترام والشعور بالكرامة وإلى كلمة حب ونظرة.
مما قاله في المطران كبوجي
عندما يصبح إنسان سؤالاً
الإنسان سؤال.. هذا بديهي
أما أن يصبح إنسان ما سؤالاً، فذاك هو السؤال
وذلك هو إيلاريون كبوجي
في سجون إسرائيل، آلاف المعتقلين يبشرون بالرجاء
ولكنهم ليسوا سؤالاً
وعلى دروب فلسطين،
وعلى الدروب المؤدية إلى فلسطين،
آلاف الصلبان، تبشر بالقيامة،
ولكنها ليست سؤالاً
———-
واخجلتاه من كبوجي
أيكون داخل السجن ليطالب العرب بإطلاق سراحه!؟
أم تراه دخله، لنقيم له المهرجانات، ونكرس بطولته على الملصقات وصفحات الجرائد؟!
ما أكثر ما نتعاطى من أفيون!
حتى الثورة لدى من يفترض فيهم أن تكون حياتهم اليومية ثورة، أصبحت أفيوناً نتعاطاه صلوات واحتجاجات وقصائد، بل وتعاويذ بها شهادة النضال.
في هذه الأثناء، يهدر العرب، هيئات وحومات وكنائس، فرصة، لو تسنى لإسرائيل أن يحدث لها معنا ما يشبهها، لما كانت تورعت عن «شرائها» بالملايين.
———-
مع المطران إيلاريون كبوجي
1- عيدك بالأمس سيدي، لا غداً
إيلاريون! سعيد!
اسم أول أسقفٍ قديس حمل هذا الاسم، وطواه الزمن منذ ستة عشر قرناً، وكان من غزة بالذات.
اسم أول أسقف عربي يُعتقل في معتقل اللاحق واللاشرعية الدوليين، إسرائيل!
وهو من سورية بالذات
وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول، تقام ذكرى الأسقف القديس.
سوف تحيي، سيدي، هذه الذكرى، في سجنك.
وسوف يحييها أصدقاؤك من رجال الكنيسة والمؤمنين، صلاة يقدون بها أبواب السماء، سائلين لك الحرية.
سيرياهوم نيوز1-الوطن