حسني محلي
التنمية، التي تغنى بها إردوغان وإعلامه وأتباعه في الداخل والخارج، فأثبتت الأعوام الماضية من حكم العدالة والتنمية أنها أكذوبة كبيرة نجح إردوغان في تسويقها داخلياً وخارجياً من دون أن يخطر في بال أحد أن يسأل عن حقيقة هذه التنمية.
أحيا حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الذكرى السنوية الـ22 على تأسيسه، في 14 آب/أغسطس 2001، وكان إردوغان آنذاك ممنوعاً من ممارسة العمل السياسي بسبب عقوبة السجن التي حُكم بها بسبب قصيدة شعرية، عدّتها المحكمة آنذاك استفزازاً وتحريضاً على التمرد ضد الدولة.
الحزب، الذي استلم السلطة بعد انتخابات 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، بحيث سيطر (بفضل قانون الانتخابات) على ثلثي مقاعد البرلمان، بعد أن حصل على 34% من مجموع أصوات الناخبين، حقق انتصاره الأول عندما قام، بدعم من حزب الشعب الجمهوري، بتعديل الدستور وألغى الحظر المفروض على إردوغان، الذي أصبح في 9 آذار/مارس 2003 رئيساً للحكومة ليحل محل عبد الله غول، الذي تَرَأّس الحكومة الأولى للعدالة والتنمية، وهو الآن، ومعه معظم قيادات العدالة والتنمية الذين شاركوا في المؤتمر التأسيسي للحزب في مدينة أفيون وسط الأناضول (وكنت أنا أيضاً حاضراً)، من معارضي الرئيس إردوغان الذي استطاع أن يتخلص منهم جميعاً. فأصبح الحاكم المطلق للبلاد، بعد أن حقق انتصاراته المتتالية في 12 دورة انتخابية تشريعية وبلدية، وضمنها استفتاء على التعديلات الدستورية. وكانت انتخابات أيار/مايو الماضي آخر هذه الانتصارات التي تحققت بفضل سيطرة إردوغان على جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها ومرافقها، وأهمها الجيش والأمن والاستخبارات والقضاء والإعلام والمال، وهو ما تحقَّق له بفضل الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو 2016، واستغله إردوغان فقام بتغيير الدستور، الذي جعل منه حاكماً مطلقاً للبلاد. فقضى على أبسط معايير الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفق تقارير جميع المنظمات الدولية والأوروبية، التي لم تبالِ بذلك ما دام إردوغان يخدم أجنداتها التقليدية.
ويفسر ذلك مساعي الغرب لتسويق العدالة والتنمية في الدول العربية حزباً إسلامياً استلم السلطة ديمقراطياً، في بلد نظامه علماني وشعبه مسلم، وذلك في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير. وجاء الدور الرئيس، الذي أدّاه إردوغان فيما يسمى “الربيع العربي”، نتاجاً لهذا التسويق، الذي رحبت به الأنظمة الخليجية، التي لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد، إلا أنها ساهمت مع إردوغان والعواصم الإمبريالية فيما يسمى “الربيع العربي”، الذي دمر المنطقة، ليكون الكيان العبري المستفيد الوحيد من كل ذلك. ويفسر ذلك اتفاقيات التطبيع بين “تل أبيب” وكل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وقريباً السعودية، والأهم من كل ذلك تركيا، التي أعلن رئيسها إردوغان نفسه زعيماً للمسلمين والإسلام ما دام يمثل الإمبراطورية والخلافة والسلطنة العثمانية التركية الإسلامية. ويبدو أنه وصل إلى نهاية الطريق بعد مجمل تناقضاته على صعيد السياسة الخارجية، فقدّم كل ما هو مطلوب منه من التنازلات، وآخرها إلى الرياض والقاهرة وأبو ظبي و”تل أبيب”، وأخيراً واشنطن، بشأن موضوع انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي. وهو الذي هدّد وتوعّد حكام هذه العواصم بعد أن أطلق شعارات دينية وطائفية وقومية وتاريخية تدغدغ مشاعر أتباعه وأنصاره، الذين يصوّتون له مهما كانت تناقضاته في السياسة الخارجية. وأثبتت جميع الدراسات أنهم لا يدركون تفاصيلها إلّا في إطار ما يقوله إردوغان لهم، ومهما كان هذا القول متناقضاً أو مغايراً للحقيقة.
وهذه هي الحال في السياسة الداخلية، بحيث أثبتت الأعوام الماضية أن كل ما قام ويقوم به إردوغان يتناقض مع اسم الحزب، فلا عدالة ولا حرية ولا تنمية، كما كان البعض في الداخل والعالمين العربي والإسلامي يسوّق ذلك. فبعد 21 عاماً على حكم الحزب المذكور، تحوّل النظام السياسي إلى رئاسي يقرر فيه إردوغان مصير كل شيء، من دون أن يرحم أياً من منافسيه أو معارضيه، أياً كانت ميولهم واتجاهاتهم السياسية، وهو ما دفع الرئيس بايدن ليصف إردوغان، نهاية عام 2019، بأنه استبدادي وديكتاتوري، ويجب التخلص منه ديمقراطياً، في الانتخابات. وهذا ما قاله معظم الزعماء الأوروبيين، بل حتى رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو، على الرغم من كل التنازلات التي قدّمها إردوغان إلى هذا الكيان ومنظمات اللوبي اليهودي الأميركية، والتي منحته وسام الشجاعة السياسية عامي 2004 و2005، بعد زيارته “إسرائيل” ولقائه شارون في القدس المحتلة.
كما أن إردوغان أضاء الضوء الأخضر لـ”تل أبيب” كي تنضم إلى الحلف الأطلسي، بصفة مراقب، في أيار/مايو 2016، وإلى منظمة التنمية الاقتصادية OECD في أيار/مايو 2010، ثم رفض إقامة أي دعوى قضائية في المحاكم التركية والدولية ضد القيادات العسكرية التي قتلت عشرة من المواطنين الأتراك، على متن سفينة مرمرة في أيار/مايو 2010، وضاعف حجم التبادل التجاري مع “تل أبيب”، وأخيراً استقبل رئيس هذا الكيان هرتسوغ في أنقرة في آذار/مارس في العام الماضي، والتقى بعد ذلك رئيس وزرائه لابيد في نيويورك.
أمّا التنمية، التي تغنى بها إردوغان وإعلامه وأتباعه في الداخل والخارج، فأثبتت الأعوام الماضية من حكم العدالة والتنمية أنها أكذوبة كبيرة نجح إردوغان في تسويقها داخلياً وخارجياً من دون أن يخطر في بال أحد أن يسأل عن حقيقة هذه التنمية، التي لم تتحقق، كما يقال عنها، بل إن ما تحقق منها كان ثمنه باهظاً جداً، وجاء على حساب الأمة والدولة التركيتين. لقد أثبتت المعارضة أكثر من مرة أن ما تحقق من التنمية، كبناء الجسور المعلّقة والطرق السريعة والأنفاق والسدود والموانئ (لم تبنِ الدولة أي مصنع أو أي معمل استراتيجي) كان بفضل قضايا الفساد الخطيرة التي تورّط فيها إردوغان وأفراد عائلته ووزراؤه والمقربون إليه، وزاد حجمها على مئات المليارات من الدولارات. وقام إردوغان بخصخصة ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسسات القطاع العام، بما فيها الموانئ والمصانع والطرقات السريعة والسدود والأحراج.
في هذا الوقت، زادت ديون تركيا الخارجية من 124 مليار دولار عام 2002 إلى 450 مليار دولار. وتراجعت قيمة الليرة التركية خلال الفترة نفسها من 1.6 ليرة لكل دولار إلى 27 ليرة للدولار الواحد. وهو ما كان كافياً لدمار الاقتصاد التركي بعد أن تراجعت احتياطيات المصرف المركزي من الدولارات إلى ناقص 60 ملياراً، ووصلت الخزانة العامة إلى حافة الإفلاس، وفق أرقام المعارضة التي تتهم إردوغان بتدمير الدولة والمجتمع بسبب سياساته المالية الخطيرة، التي أوصلت قطاعات واسعة من الشعب إلى حافة الافلاس والفقر المدقع والجوع، بعد الزيادات في أسعار المنتوجات والخدمات، وزادت بنسبة 200-300% خلال الشهرين الماضيين فقط، الأمر الذي دفع الحكومة إلى فرض مجموعة إضافية من الضرائب المجحفة، والتي أثقلت كاهل الشعب بعد أن أقر إردوغان زيادات بسيطة على مرتبات الموظفين والعمال، مستثنياً منهم المتقاعدين. ويبدو أن لا حول لهم ولا قوة بعد أن نجح إردوغان في إسكات الجميع، بما في ذلك وسائل الإعلام المعارِضة، بل حتى أحزاب المعارضة، التي تعيش مشاكلها الداخلية بعد هزيمتها في الانتخابات الأخيرة والتي سبقتها.
يدفع كل ذلك البعض إلى الحديث عن سر نجاح إردوغان في البقاء في السلطة 21 عاماً على الرغم من كل السلبيات التي لخصتُ البعض منها أعلاه. فهم يقولون إن إردوغان أحد أهم عناصر السيناريوهات التي كتبها البعض في الخارج. فكان الجميع في الداخل في خدمة هذه السيناريوهات، منذ أن وافق حزب الشعب الجمهوري في آذار/مارس 2003 على رفع الحظر المفروض على إردوغان، ثم تحالف حزب الحركة القومية مع إردوغان في حزيران/يونيو 2015، بعد أن قال زعيمه دولت باخشالي عنه ما لا يُقال في السياسة والأخلاق. وقد يكون استمرار الدعم الغربي والدعم الشرقي (الروسي) لإردوغان، الذي حظي مؤخراً، من جديد، بدعم أنظمة الخليج، من أهم استراتيجيات إشارات الاستفهام في استمرار إردوغان في السلطة، وسط مخاوف قطاعات واسعة من الشعب من احتمالات أن يقضي إردوغان على النظام العلماني، قبل الذكرى المئوية للجمهورية في 29 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، بعد أن خطا إردوغان خطوات مهمة في طريق التخلص من إرث مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك. ولم يبقَ إلّا القليل من هذا الإرث بعد أن دخل الشعب التركي في دوامة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الدينية والثقافية والأخلاقية، على الصعيدين الشخصي والعام. وكل ذلك بفضل 22 عاماً من عقيدة حزب العدالة والتنمية، و21 عاماً من التطبيق السلبي والسيئ لهذه العقيدة، والتي أثبتت فشلها، إن لم يكن ذلك مقصوداً أيضاً!
سيرياهوم نيوز1-الميادين