آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » بقْعَةُ العَسَل

بقْعَةُ العَسَل

 

د. سلمان ريا

«لا تكن متفوقًا في عالمٍ منحط، لأنك ستكون بقعة عسلٍ في عالمٍ من الذباب»
— محمد الماغوط

ليست الكلمات، حين تنبع من قاع الجرح، محضَ رأيٍ عابر، بل شهادةُ وجود. وحين يتكلّم الشاعر بلغة الدم، لا الزينة، تصبح العبارة قنطرةً إلى تأمّلٍ فلسفيّ يتجاوز مناسباته، ويتّسع لوجعٍ تاريخيّ لا ينتهي.
في عالمٍ تنكّرت فيه الأيام لذاتها، وغدت فيه الفضيلة عورةً، والتفوّق تهمةً سابقةً للتبرير، تبدو هذه العبارة كخرزةٍ يتيمةٍ من مسبحة الروح، تنفرط منها حَبّاتُ المعنى مع كلّ شهقةِ ضوءٍ تُنحر على عتبة الظلام.
أن تكون نقيًّا في بيئةٍ تنضحُ بالصدأ، هو أن تعيش عاريًا في زمن الأقنعة، وأن تمشي على حبل الحقيقة فوق ساحةٍ يصفّق فيها الجمهور للبهلوانات، ويقذف بالمفكرين إلى قاع النسيان. التفوّق، في مثل هذا الزمان، ليس ترفًا نخبويًّا، بل انبعاثٌ داخليٌّ يرفض التماهي مع القطيع، ويأبى أن يكون لبنةً في جدار العتمة. هو انحيازٌ إلى النور، لا بوصفه ضوءًا فيزيائيًّا، بل كثافةً روحيّةً لا تقبل المقايضة. هو انتماءٌ للمعنى في حضرة اللاجدوى، وارتكابٌ للصدق في سوق المفردات المستأجرة.
في المكان الذي أُخرج فيه النور من بين الأنهار السبعة، وألّف فيه الحرف تراتيله الأولى على ألواح الطين، كان يُفترض أن يكون التفوّق موروثًا لا مَعيبًا، وجذعًا لا شظية. غير أنّ الخراب، حين طال المعابد، لم يُبقِ لنا من عشتار سوى صدى، ومن أوغاريت سوى ترنيمةٍ مطمورةٍ تحت الركام. لقد تحوّل المجد في سوريا من جبينٍ مرفوعٍ إلى شاهد قبر، ومن نبوءةٍ إلى نشرة أخبار. غُلِّفَت الحكمةُ بالقهر، وسُيِّجَ العقلُ بخطاب الشبهة، وأُغلِقَ بابُ النبوغ باسم الأمن القومي، فصار النقيّ خائنًا بحكم النقاء، وصار التفوّق جريمةً يُفتّش صاحبُها عن وطنٍ آخر، أو قبرٍ أنظف.
الذباب، في بنيته الرمزية، لا يمثّل الفساد فحسب، بل استقرار القبح، وتهافُت الجماعة على تمجيده. لا يهاجم الذبابُ العسلَ لأنه ضارّ، بل لأنه مرآةٌ عكسيّةٌ تفضح العفن. لذلك، يُطارد المتفوق كما يُطارد الضوء في نفقٍ تعوّدت جدرانه على السوادِ الحالك. في هذا السياق، يصبح العسلُ شهقةَ الوجود الأخيرة، ويغدو الذبابُ طقوسًا استهلاكيةً جماعيّةً للموت البطيء. تُختَزَل الحضارة، لا في لوحاتها ولا كتبها، بل في لحظة استئصالٍ لكلّ ما يذكّرنا بأنّنا كنّا يومًا سلالةَ آلهةٍ تُجيد النحت بالكلمة.
في كلّ عصرٍ غلبت فيه الرداءة، لم يكن المتفوق مجرّد استثناء، بل لعنةً تمشي على قدمين. هكذا قُطِعت رؤوس الفلاسفة، ونُفِي الشعراء، وحُرقت كتب الحكماء، لا لذنبٍ ارتكبوه، بل لأنهم لم يتورّطوا في الصمت. إنّنا، في هذا الركام التاريخي، لا نبحث عن البطولة في قصائد المعلّقات، بل عن بوصلةٍ في بحرٍ غرق فيه النجم. ومن يتمسّك بتفوقه، كأنّما يزرع شجرةً فوق مقبرة. لا ضمان لها بالثمر، لكن ظلّها المحتمل هو آخر ما تبقّى من الكرامة.
قد يموت النقاء، لكنّه لا يتعفّن. وقد يُنسى التفوق، لكنّه لا يتحوّل إلى ذباب. فحين تفنى بقعة العسل، لا يكون الذباب هو المنتصر، بل هو الشاهد الصامت على موت شيءٍ أرفع منه. ليس التفوّق فعلاً ماضويًّا، بل تعبيرٌ عن أملٍ مستحيل. هو صلاةٌ صغيرةٌ في محرابٍ مغلق، وصرخةٌ ضد الزمن، ونبوءةٌ تُزهِر في الرماد.
أن تكون متفوّقًا في عالمٍ منحطّ، هو أن تختار ألا تشبه جلّاديك، ولو على حساب حياتك. أن تترك أثرك في الطين، لا لكي يُمحى، بل لكي يُبعث.
(موقع أخبار سوريا الوطن-٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سباقُ الفُرصِ الدّسمةِ

ناظم عيد نتوجّس -نحن السوريين- من الضحك والفرح المفرط، وإن كانت خصلة غير مستحبّة في موروثنا الشعبي، فقد يكون علينا أن نقلع عنها، وننفض غبار ...