بقلم د. حسن أحمد حسن
للعيد بهجته الذاتية مهما تكن الظروف المرافقة ضاغطة وموجعة، والاحتفاء بالعيد ــ بغض النظر عن مستوى البهجة أو الأوجاع ـــ أمرٌ مهمٌ للحفاظ على القيم والمعاني والدلالات التي يتضمنها العيد، وهناك من يرى أن العيد ما سمي عيداً إلا لعودته بعد إتمام الدورة السنوية، وهذا يعني التأكيد على أهمية الاحتفاء بالعيد وإحيائه بشكل دوري كل عام، وهنا يجد المرء ذاته أمام ثنائيات تبدو متناقضة في الظاهر، لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، فالعيد يعني البهجة والفرح والثياب الجديدة وتقديم الأضاحي والتواصل الخلاق والمثمر، وواقع الحال يقول: إن كل ذلك إما أصبح في خانة المتعذر أو في الحدود الدنيا لإمكانية تقمص شخصية الناس الذين يعيشون فرحة العيد، ونظراً لتعدد جوانب هذه الصورة المركبة أرى ضرورة الابتعاد عن الجانب الديني، لأن الكتابة في هذا البعد تتطلب الاختصاص، ولا أدعي أن من فرسان هذا الميدان الزاخر بالعديد من السادة العلماء ورجالات الفكر الديني الصحيح الذي انطلق من دمشق إلى بقية أنحاء المعمورة، وسورية غنية بهؤلاء السادة الذين كانوا جنباً إلى جنب مع رجال الجيش العربي السوري الميامين في الدفاع عن عزة الوطن وكرامته وسيادته، ولهم جميعا كل الاحترام والتقدير، وكيف لا وهم الذين رهنوا حيواتهم لشرح المضامين الدينية بالشكل الصحيح، جزاهم الله عنا الخير.
انطلاقاً مما سبق ستقتصر مقالتي على مقاربة بعدين آخرين لإطلالة عيد الأضحى المبارك: البعد المجتمعي، والبعد السياسي الخاص بغزة العزة وشعبها الصابر المحتسب الصامد المحتضن مقاومته، والمصمم على تقديم التضحيات مهما بلغت دفاعاً عن الحق والكرامة وإنسانية الإنسان، في حين أن أمة الملياري مسلم ما تزال غالبية دولها تتابع حياتها وكأن أنهار الدم الفلسطيني والدم المقاوم في بقية جبهات الإسناد والدعم لا يعني لأولئك شيئاً… في عيد الأضحى المبارك يزداد الجرح عمقاً، والدماء النازفة غزارة، وأعداء الله والإنسانية يزدادون إجراماً ووحشية، ولا يحرك كل ذلك شعرة في مفرق هذا المسؤول أو ذاك ممن ارتضوا لأنفسهم الإذعان والذلة والخضوع، وفرضوا على دولهم وشعوبهم حالة من السلبية القاتلة والعجز المفروض، في الوقت الذي يرى فيه العالم بأم العين ويتابع ما يتفتق عنه الخبث الغربي، والحقد والإجرام المسيطر على المتغطرسين المتكبرين الذين استمرؤوا تبادل الأنخاب بجماجم الضحايا، وما كان لهم أن يستمروا بجريمة الإبادة الجماعية والتهجير القسري الممنهج لولا صمت من ربطوا استمرارية كراسيهم وعروشهم برضا أعداء الله والحق والإنسانية، فعذراً أطفال فلسطين، وأنتم تستقبلون عيد الأضحى بقوافل الشهداء، وعذراً يا شعب الجبارين في غزة وبقية أقطاب محور المقاومة، فالضمير العالمي أُدْخِلَ عنوةً في غيبوبة تمهيداً لتحنيطه في مختبرات القتل والإجرام، وهيهات لكل طواغيت الكون أن يفلحوا في تحقيق أي من أهدافهم الشريرة.
آثرت الاكتفاء بالأسطر القليلة السابقة الخاصة بالبعد السياسي، لأن أوجاع الواقع القائم تحتاج لمجلدات للتعبير عن بعض حقائقها الجاثمة في الأذهان، والضاغطة على القلوب والضمائر، أما ما يتعلق بالبعد المجتمعي فهو خاص ومحصور بنا نحن السوريين الذين نعيش أيام عيد الأضحى المبارك ــ أعاده الله على الجميع بالخير والبركات ـــ وأرى ضرورة استذكار صور إحياء هذا العيد قبل عقود، وترك القارئ أمام حقيقة ما كانت عليه طقوس العيد، وما آلت إليه، وله أن يعتمد المقارنة أو القياس إن شاء، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى بعض الدروس والعبر والدلالات، ومنها:
• نبذ العداوة والبغضاء، ووأد الخصومة والضغائن مهما بلغت، والتصالح بين جميع أبناء هذه القرية أو البلدة، فلا يحق لأحد أن يرفض ذلك، بل على الجميع الإذعان للمصالحة بمناسبة العيد واللقاء بمن يخاصمونهم، أو بمن قطعوا التواصل معهم لسبب أو لآخر، ففي العيد حتمية اللقاء والتواصل وتبادل التحية والسلام والاحتضان والصفح والمسامحة بغض النظر عن المظلومية التي تعرض لها هذا الشخص أو ذاك، فالصلح سيد الأحكام، والمصالحة بوابة لفتح صفحة جديدة تنعكس إيجاباً على الجميع، وهكذا يُسْتَقَبَلُ العيدُ بما يليق به، ويمضي جارفاً معه كل ما له علاقة بالأحقاد والخصومة والزعل والقطيعة، واستبداله بمزيد من المكاشفة والبوح والاعتذار وجبر الخواطر، فلا مكان ولا مكانة لمستكبر متغطرس، ولا مبرر لاستضعاف أحد أو التطاول على كرامته، ومعاً يبدأ الأهل عاماً جديداً يتبادلون فيه المحبة والتعاون وشد أزر بعضهم بعضاً.
• عودة غالبية المسافرين إلى القرى والبلدات، ففي العيد يجتمع الأهل والأحبة، ويتبادلون الزيارات والتهنئة بالعيد، ولا مبرر لأحد في التخلف عن الحضور طالما أنه يستطيع العودة وقضاء فترة العيد مع الأهل والجيران، فالعمل في محافظة أخرى أو مدينة بعيدة، والتذرع بوعثاء السفر وصعوبته ليس مسوغاً قط، وغالبية من هم خارج بلداتهم وقراهم يعودون زرافات ووحدانا، حتى لتكاد معالم كل حي وحارة ترقص فرحاً بعودة الأبناء واجتماعهم، وإطفاء نار الشوق التي تبعد الابن عن والديه، والشقيق عن شقيقه، ولا منَّةَ لأحد في العودة ضمن عطلة العيد، بل فعل ذلك واجبٌ لا مندوحة عن أدائه.
•التكافل والتعاضد، ومد يد العون لكل المحتاجين بعيداً عن حب الظهور وتسويق الذات كفاعلٍ للخير، فعلى كل مقتدر أن يقدم ما يراه واجباً لجبر خواطر البقية من أهله ممن يحتاجون المساعدة بعيداً أيضاً عن ذل السؤال والطلب، وحتى على مستوى تقديم الأضاحي لم يكن يوماً للتفاخر والتباهي بل للتقرب إلى الله، ومن يقبل دعوة هذا الشخص أو ذاك لتناول طعام الغداء على مأدبته في العيد يكون صاحب الفضل الأكبر على من قدم الأضاحي وأقام الولائم وليس العكس، أي أن الفقير يتفضل على الغني عند قبول دعوته والحضور على مأدبته، فكم نحن اليوم أحوج لتمثل هذه القيم والمعاني والدلالات؟…
أختم لأقول بصيغة الاستفهام الإنكاري: أليست الأفكار الثلاثة السابقة جديرة بالتبني والعمل على بلورتها وضخها لتصبح جزءاً من طرائق تفكير المجتمع؟ وهل تصلح لتكون المادة الرئيسة في أي حوار وطني داخلي بين أبناء الشعب السورية، أم لا، وهنا أبيح لنفسي أن أرفع سقف الأحلام الذاتية آملاً أن تكون مجالسنا وحواراتنا واجتماعاتنا العامة والخاصة مزينة بطرح هذه الأفكار، وقد يكون الظرف القائم الذي نعيشه في وطننا الأغلى سورية الحبيبة أكثر من مناسب، حيث القيادة المركزية الجديدة للحزب، وإمكانية مقاربة كل الملفات بطريقة أكثر مردودية ومسؤولية، وهنا أبيح لنفسي من جديد أن أرفع السقف أكثر فأحسب أن كل عضو من أعضاء مجلس الشعب يتبنى هذه الأفكار ويحملها في وجدانه وقلبه وفكره إلى تحت قبة المجلس في دوره التشريعي القادم وفق الانتخابات المقررة في الخامس عشر من شهر تموز2024، وأستطيع أن أجزم القول: إن تحقيق هذا الأمر وتبني السادة النواب برنامج عمل يضع في أول سلم اهتماماته شد أزر السوريين جميعاً إلى بعضهم بعضاً يخفف الأوجاع عن الجميع، ويعيد للعيد بهجته وألقه، والكثير من الثمار تنتظر، وهي قابلة للنضج في وقت قياسي شريطة الخروج من الشخصانية و”الأنا” الضيقة إلى “النحن” المجتمعية الكفيلة بتغيير الكثير من معالم الصورة التي أفرزتها سنوات الحرب القذرة المفروضة على السوريين منذ آذار 2011م. على أقل تقدير.
(موقع سيرياهوم نيوز-١)