خضر خروبي
حملت الانتخابات البرلمانية الفرنسية، بدورتها الثانية، نتائج غير مسبوقة لكلّ من حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرّف، وتحالف «الجبهة الشعبية الجديدة»، المؤلف من مجموعة أحزاب ذات توجهات يسارية، وشيوعية، وبيئية، أبرزها حزب «فرنسا الأبية» بزعامة جان لوك ميلونشون»، و»حزب الخضر». وفيما بدا أن تكتُّل «معاً»، المحسوب على الرئيس إيمانويل ماكرون، الخاسر الأكبر في الانتخابات، عبر تقلُّص حضوره البرلماني من 245 إلى 156 نائباً، فإنّ التقدُّم الذي حقّقه اليمين المتطرّف واليسار الجذري، جاء مطعّماً بشيء من المرارة، ولا سيما أن عدد المقاعد النيابية الـ142 التي حصدتها كتلة «التجمّع» (88 في البرلمان السابق)، جاءت خلافاً للتوقّعات، بعد تقدُّم الحزب خلال الجولة الأولى، فيما لا يبدو حلول تحالف اليساريين في المرتبة الأولى، بحصوله على 178 مقعداً، كافياً لإحراز الأكثرية المطلقة، وبالتالي ضمان تشكيله الحكومة منفرداً، والذي يتطلّب ما لا يقلّ عن 286 مقعداً، من مجموع 577 نائباً يشكّلون الجمعية الوطنية.
مواقف محلية ودولية
منذ الساعات الأولى لإعلان النتائج، واحتفال أنصار «الجبهة الشعبية» بنجاح مسعاهم في لجم الاندفاعة السياسية والانتخابية لليمين المتطرف، انهمك قادة الجبهة بدراسة خياراتهم السياسية بعد الانتخابات، وتحديداً لناحية طرح مرشحين محتملين لرئاسة الحكومة المقبلة، علماً أن الدستور الفرنسي يعطي الرئيس – نظريّاً – الحقّ في تكليف أيّ شخصية لمنصب رئاسة الحكومة، بصرف النظر عمّا إذا كانت تتمتّع بدعم البرلمان، بينما رست الأعراف السياسية، من الناحية العملية، على أن تكون الجهة المكلفة بتشكيل الحكومة تنتمي إلى أكبر تكتُّل برلماني، كونها تحتاج إلى الحصول على ثقة البرلمان.
وكشكل من أشكال الزهو بـ»النصر الانتخابي» ليساريي فرنسا، اعتبر ميلونشون أن على ماكرون الاعتراف بهزيمته، وأن يعهد إلى الائتلاف السياسي الذي يتزعمه الأول، مهمّة تشكيل الحكومة الجديدة، وهي مواقف ترافقت مع أخرى أقلّ حدّة من جانب زعيم «الحزب الاشتراكي»، رافاييل غلوكسمان، الذي قال إنه «يتعيّن علينا التصرّف كبالغين»، مضيفاً: «(أنّنا) نحظى بوضع متقدّم على الأحزاب الأخرى (لناحية عدد النواب) داخل برلمان منقسم، ما يجعلنا معنيين بالانخراط في محادثات ونقاشات» مع الأحزاب الأخرى. ولم يتأخّر رد ماكرون، إذ دعا إلى «توخّي الحذر» في تقييم نتائج الانتخابات التشريعية، مؤكداً أن كتلته النيابية «لا تزال على قيد الحياة». وقبيل ساعات من تسلُّم الرئاسة الفرنسية استقالة الحكومة الحالية، عملاً بأحكام الدستور، أكد مكتب «الإليزيه» أن «الرئيس، ومن منطلق كونه الضامن لمؤسّساتنا، سيحترم خيار الشعب الفرنسي». وأعرب رئيس الحكومة المستقيلة، غابرييل آتال، بدوره، عن استعداده للاستمرار «طالما اقتضى الواجب منّي ذلك»، على رأس الحكومة لتسيير شؤون البلاد، قبل تشكيل حكومة جديدة، وذلك نزولاً عند رغبة مؤسسة الرئاسة. وبخصوص انفتاح حزب «النهضة»، الموالي للرئيس، على تشكيل حكومة ائتلافية، أعلن زعيم الحزب، ستيفان سيغورن، عدم ممانعته العمل مع الأحزاب الرئيسية، نافياً في الوقت نفسه وجود فرص لعقد أيّ اتفاق مع زعيم حزب «فرنسا الأبية».
في المقابل، انتقد رئيس حزب «التجمّع الوطني»، جوردان بارديلا، ما وصفه بـ»تحالف العار»، في إشارة إلى تكتّل أحزاب اليسار ضدّ حزبه، وتركيز خصوم اليمين المتطرّف على توزيع خارطة الترشيحات للوقوف في وجه مرشحيه في مختلف الدوائر الانتخابية. كما أعطى بارديلا إشارات حول بقاء حزبه في صفوف المعارضة، مستبعداً إمكانية عقد «أيّ تسوية سياسية ضيّقة» مع الأحزاب السياسية الكبرى الفائزة في الانتخابات. أما مارين لوبن، زعيمة الحزب، فقد شدّدت على أن «نصرنا مؤجل فقط»، معتبرة أن «المدّ (الشعبي المؤيّد لليمين المتطرف) لم يرتفع بالمستوى الكافي هذه المرة، لكنه يستمر في الصعود».
وفي خضمّ هذا المشهد المفتوح على أزمات سياسية ودستورية مستعصية، قبل ثلاثة أسابيع من استضافة فرنسا لدورة الألعاب الأولمبية، لاقت نتائج الانتخابات حفاوة في أوساط عدد من قادة أوروبا، كإسبانيا، وأميركا اللاتينية، كالمكسيك. فمن جهته، أشاد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بـ»رفض فرنسا الخضوع لليمين المتطرف»، وهو موقف مماثل لمضمون ما أدلى به عضو مجلس الشيوخ الأميركي، وأحد وجوه التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، بيرني ساندرز، في معرض تعليقه على «تشريعيات فرنسا». وفي الاتجاه نفسه، ذهبت مواقف بعض رؤساء أميركا اللاتينية، بخاصة أولئك من ذوي التوجهات اليسارية، إذ أعرب الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، المعروف بعلاقاته الوطيدة مع ميلونشون، عن سعادته بـ»النضج (السياسي) دفاعاً عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية»، والذي أظهرته «الجبهة الشعبية الجديدة».
مشهد ما بعد الانتخابات: تحالف ماكرون وبعض اليساريين و»البيئيين»؟
وبالحديث عن الدلالات السياسية لنتائج «تشريعيات فرنسا 2024»، التي لم تسفر عن حصول أيٍّ من الأحزاب الكبرى على الأغلبية المطلقة في البرلمان، تكاد تجمع التحليلات الغربية على أن ما شهدته فرنسا، خلال الأسبوع الجاري، أظهر جدوى تكتيكات ائتلاف أحزاب اليسار، في التأثير على الناخبين، عبر حثّهم على انتهاج التصويت العقابي ضدّ أحزاب اليمين المتطرّف. وفي هذا الصدد، يؤكد المدير العام لشركة «إيبسوس» للدراسات الإحصائية، بريس تينتورير، أن النتائج المشار إليها تحمل دلالات على أن «معظم الناخبين الفرنسيين لا يزالون يعتبرون حزب الجبهة الوطنية خطراً (على بلادهم)». وبخصوص المشهد السياسي المتوقّع بعد الانتخابات، وعدم وجود أيّ إمكانية لحلّ البرلمان من قِبَل الرئيس قبل مرور عام من الآن، لفتت صحيفة «ذا غارديان» إلى أن «فرنسا قد دخلت الآن، وبصورة لم تعهدها في تاريخها، في مرحلة من عدم اليقين، في ضوء عدم وضوح شكل حكومتها المستقبلية، وعدم حسم هوية رئيس وزرائها القادم»، مؤكدة أن تشكيل الحكومة قد يستغرق أسابيع عدة، ولا سيما أن البرلمان قد بات يتشكل من ثلاث كتل سياسية متعارضة في برامجها، من دون أن تتمتّع بتاريخ من العمل البرلماني المشترك في ما بينها.
ما شهدته فرنسا، أظهر جدوى تكتيكات ائتلاف أحزاب اليسار، في التأثير على الناخبين، عبر حثّهم على انتهاج التصويت العقابي
وعن فرص قيام ائتلاف سياسي واسع من شخصيات محسوبة على اليسار والوسط، تتّفق في ما بينها على برنامج تشريعي ضمن أضيق الحدود، وهي مقترحات سبق أن لمّح إليها وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة فرانسوا بايرو، وزعيمة «حزب الخضر» مارين تونديليه، رأت الصحيفة البريطانية أن «فرص قيام ائتلاف مماثل يعتمد في جانب كبير منه على مدى استعداد حزب فرنسا الأبية للتوصل إلى تسوية في هذا الخصوص، وكذلك على مدى استجابة أحزاب اليسار المعتدل لمقترح مماثل في حال رفض حزب ميلونشون الانخراط في هذه اللعبة (السياسية)، خصوصاً أن الحزب المذكور أكد مراراً أنه لن يدخل الحكومة إلا من أجل تنفيذ سياساته حصراً، وليس سياسات أخرى». وبحسب الصحيفة البريطانية، فإنه إذا كانت عدة شخصيات معتدلة في «معسكر ماكرون» قد أعلنت رفضها الدخول في تحالف مع حزب «فرنسا الأبية»، إلا أن ثمة تقديرات تشير إلى عدم استبعاد إمكانية تكوين ائتلاف سياسي حكومي واسع، من تحالف «معاً»، و»الاشتراكي»، و»الخضر» وعدد من الأحزاب الأخرى بقصد الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان.
وفي السياق نفسه، يرى محللون فرنسيون أن تشكيل ائتلاف حكومي وبرلماني، بالتعاون بين حزب الرئيس ماكرون، وأحزاب يسارية ومنظمات سياسية بيئية أخرى، يُعدّ أمراً ممكناً من حيث المبدأ، إلّا أنه، من الناحية العملية، تعتريه صعوبات جمّة، بالنظر إلى تباين مواقف تلك الأحزاب في شأن قضايا رئيسية مثل البيئة، والضرائب، والرواتب التقاعدية، وعناوين أخرى. ومن هذا المنطلق، يجزم خبير القانون الدستوري في «جامعة السوربون» في باريس، برتراند ماتيو، بأن «هناك فجوة كبيرة بين ما هو ممكن نظرياً، وما يمكن تحقيقه فعلياً على أرض الواقع»، في ما يخصّ التوقعات بقيام تحالف سياسي بين الأحزاب المشار إليها، مشدّداً على أنه «لا يمكن تصوّر اتفاقها على برنامج، إلا ضمن الحدود الدنيا (من القواسم المشتركة)».
ومن بين السيناريوات المتوقّعة ما بعد الانتخابات، هو أن يعمد ماكرون إلى تكليف إحدى الشخصيات المحسوبة عليه بتشكيل حكومة تكنوقراط، وهو أمر يرفضه قانونيون لأسباب تتعلّق باعتبار الأمر «خروجاً عن التقاليد السياسية السائدة» في البلاد، ولا سيما أن ذلك ينطوي على تجاوز لإرادة الناخبين. وللتعبير عن وجود إشكالات تحيط بالأمر، لاعتبارات دستورية وقانونية، يشرح الخبير في القانون الدستوري في «جامعة ليل»، جان فيليب ديروسييه، أنه لا يوجد أيّ «تعريف مؤسّسي» لحكومات من هذا النوع، وفقاً للنصوص القانونية والدستورية الفرنسية، مستدركاً أنه يمكن تشكيل حكومة مماثلة «طالما أنها تحظى بثقة البرلمان».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية