| محمد عبد الكريم أحمد
عانت بوركينا فاسو اضطراباً سياسياً مزمناً، منذ إجهاض مشروع الرئيس الشاب الأسبق، توماس سنكارا، لإعادة بناء الدولة الوطنية المستقلّة، باغتياله الذي استهدف إنهاء تجربة «ثورية» وجيزة (1983-1987)، كانت الأكثر واقعية وتفهُّماً لحاجات هذه الدولة، من «المنظور الماركسي»؛ إذ شملت تطبيق برامج لخفض وفيات الأطفال، ورفع معدّلات التعليم ونسبة الالتحاق بالمدارس وتمكين المرأة، ومكافحة التصحّر عبر زراعة 10 ملايين شجرة في عام واحد. واغتال سنكارا، الرئيسُ البوركيني لاحقاً ( 1987 – 2014)، بليز كومباوري (الذي أُدين في نيسان من العام الجاري بقتل سنكارا، وحُكم عليه غيابياً بالسجن مدى الحياة)، وسط تغيّرات سياسية متلاحقة، ظلّت تشهدها البلاد حتى وصول الرئيس الأسبق، روش كريستيان كابوري، إلى الحُكم (2015)، ثمّ انقلاب الرئيس المخلوع، بول هنري داميبا، عليه، وبدئه مطلع آذار الفائت فترة كان مقرَّراً أن تستمرّ لثلاثة أعوام، إلّا أنها انتهت عملياً بتَحرّك إبراهيم تراوري (34 عاماً) لإسقاط داميبا الذي رحل بالفعل مساء الأحد إلى توجو.
ملفّات تراوري
أثّرت التغيّرات العالمية الأخيرة على النموّ الاقتصادي في بوركينا فاسو، حيث قادت جائحة «كوفيد – 19» إلى تباطؤ نموّ الناتج المحلّي الإجمالي، وتوقّفه عند نسبة 1.9% في عام 2020، قبل أن يعاود الارتفاع بفضل مستويات عالية من إنتاج الذهب وارتفاع أسعاره العالمية ليصل إلى 6.7% في عام 2021، فيما يُتوقع أن يظلّ عند 5.6% في عام 2022، ويستقرّ عند 5.3% في عام 2023. لكنّ المؤشّرات الأخرى لم تكن تسلك في الاتّجاه نفسه؛ إذ تعاظَمت النفقات الحكومية لمواجهة تداعيات الجائحة، وارتفع العجز العام إلى 5.7% في عام 2020، ثمّ 5.6% في العام التالي، في ظلّ عدم ضبط أولويات الموازنة العامة وغياب عدالة التوزيع (تفيد تقارير بأن أكثر من 40% من مساحة البلاد لا تخضع بالفعل للإدارة الحكومية). كذلك، صُنّف أكثر من 40% من سكّان البلاد تحت خطّ الفقر (يعمل أكثر من 90% من السكّان في قطاع الزراعة والخدمات المتعلّقة به)، فيما تَوقّع البنك الدولي تفاقُم مشكلة التضخّم في العام الجاري مقارنة بالعام الماضي، وتراجُع الأداء الاقتصادي بشكل عام في ظلّ عقوبات «الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» (إيكواس)، وتعليق عضوية واجادوجو في عملية صُنع القرار داخلها، ووصول العجز المالي في الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2022 إلى 6.6% بسبب التحدّيات الأمنية والإنسانية والاجتماعية والغذائية، خصوصاً لناحية ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 14.7%، وتسبّبها بتعمُّق أزمة الأمن الغذائي.
وعلى رغم قتامة المشهد الاقتصادي، والذي يظلّ إيجابياً نسبياً قياساً إلى بقيّة دول الإقليم (بما فيها تشاد البترولية التي تعاني تشوّهاً حادّاً في موازنتها)، يظلّ ملفّ الإرهاب هو الأخطر – مرحليّاً على الأقلّ – أمام إدارة إبراهيم تراوري وقادة الانقلاب الأخير، في ضوء عدّة اعتبارات أبرزها أن قدرة الرجل على مواجهة الأنشطة الإرهابية التي تَغوّلت داخل البلاد، ستكون المعيار الأوّل لتقييم أدائه ومصداقية خطواته. كما أن استمرار استنزاف دخْل الدولة في جهود مواجهة الإرهاب من دون تحقيق الاستقرار المتوقَّع، سيمثّل تهديداً حقيقياً لمشروعيّة نظام تراوري، الذي يُرجَّح أن يبدأ على الفور خطوات عملية في هذا المسار، مِن مِثل توقيع اتّفاق للتعاون مع موسكو، قد يشمل ضمنياً استقدام قوّات من مجموعة «فاغنر» المعروفة بخبراتها الميدانية في الإقليم أخيراً. وفي تكرار لسيناريوات مشابهة شهدتها مالي وعدّة دول أخرى، من المقرّر أن يدعو المجلس العسكري بقيادة تراوري، المعنيّين بشؤون البلاد، قريباً (بحسب بيان متلفز)، إلى تبنّي ميثاق لمرحلة انتقالية جديدة وتعيين رئيس مدني أو عسكري.
تشير التطوّرات في إقليم الساحل إلى اضطراب بُنيوي في ما أرْسته فرنسا من تقاليد سياسية
روسيا تتخطّى فرنسا
تشير التطوّرات في إقليم الساحل، بما فيها تلك الجارية في تشاد – قلعة فرنسا الحصينة في الإقليم منذ قرون ومقرّ قيادتها العسكرية الاستعمارية وما بعد الاستعمارية -، إلى اضطراب بُنيوي في ما أرْسته فرنسا من تقاليد سياسية هناك، استناداً إلى سياسة «ثنائية الشمال والجنوب». كما تُنبئ بأن ثمّة غلياناً شعبياً حقيقياً مناهِضاً للسياسات الفرنسية وما يدور في فلكها من سياسات قادة الإقليم (مثلما اتّضح في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وحتى في تشاد نفسها راهناً)، ولا سيما أن هذه السياسات عمّقت استنزاف موارد البلاد، وعسكرت موازناتها (قُدّرت المخصَّصات المباشرة للجيش في بوركينا فاسو في عام 2020 بـ380 مليون دولار قياساً إلى ناتج محلّي يبلغ نحو 16.5 بليون دولار)، لصالح المحاصصات الاقتصادية الفرنسية (المدعومة غربياً ومن بعض الدول الخليجية).
وفي مقابل هذا التراجع الفرنسي، ثمّة صعود روسي ملحوظ في دول الإقليم، تَجسّد أخيراً في التظاهرات الحاشدة في بوركينا فاسو تأييداً لتحرّك تراوري، حيث برز رفْع الأعلام الروسية بكثافة لافتة، وترداد شعارات تُطالب موسكو بتقديم الدعم العسكري للبلاد (على غرار ما فَعلته في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث نجح الدعم الروسي في تحجيم العمليات الإرهابية إلى أدنى مستوياتها منذ عشرة أعوام تقريباً). وفي ضوء التصعيد المحتمل في الأزمة الروسية – الأوكرانية، والعجز الإقليمي الواضح سواءً في مؤسّسات الاتحاد الأفريقي أو «إيكواس»، يُرجَّح في النهاية لجوء تراوري إلى روسيا في إطار تقارب بوركيني- روسي لا يُستبعد أن يكون قد انطلق قبل 2 تشرين الأوّل الجاري، في مقابل قطيعة مع فرنسا، التي هاجم المتظاهرون البوركينيون مبنى سفارتها، والعديد من المباني التابعة لحكومتها في البلاد.
بادرت «إيكواس»، بعد تأكيد الانقلاب بساعات، ومغادرة القائد العسكري السابق، هنري داميبا، البلاد إلى توجو، بنتيجة مفاوضات وجيزة أجراها عدد من رجال الدين، إلى إرسال وسطاء إقليميين إلى واجادوجو، وسط مخاوف من أن يقود الانقلاب إلى تأجيل إضافي للانتخابات، وتصاعُد نشاط الجماعات الإرهابية، ولا سيما مع إعلان الرئيس الجديد، إبراهيم تراوري، تأجيل الانتخابات بالفعل (بعدما كانت الجماعة قد توصّلت إلى اتّفاق سابق بصددها مع داميبا، لإجرائها بحلول تموز 2024). وكانت «إيكواس» قد علّقت، في إجراء بات روتينياً ولا يؤتي تأثيراً يُذكر لدى دول الجماعة، عضوية بوركينا فاسو في كانون الثاني 2022 عقب انقلاب داميبا، على رغم اتّفاقها مع الأخير على ترتيب مرحلة انتقالية مدّتها عامان، تنتهي بإجراء الانتخابات. وإذ جدّدت «إيكواس»، بعد الانقلاب، معارضتها لأيّ شكل من أشكال الاستيلاء على السلطة بوسائل غير دستورية، فقد دان رئيس «مفوّضية الاتحاد الأفريقي»، موسى فقي (قبل لجوء داميبا إلى توجو)، اتّساقاً مع محدودية الاستجابة الإقليمية، «التغيير غير الدستوري للحُكم في بوركينا فاسو». ودعا فقي، الجيش، إلى الابتعاد فوراً وعلى نحو كامل عن أيّ أعمال عنف أو تهديدات للسكّان المدنيين والحقوق المدنية وحقوق الإنسان، مطالباً باستعادة النظام الدستوري.
يبدو هذا السيناريو مرجَّحاً للتكرار بشكل كبير، في ضوء ملاحظة قرارات «تراوري» الأوّلية بعد إعلانه رئيساً جديداً للمجلس العسكري الحاكم؛ إذ ألحق ذلك بغلْق الحدود البرّية والجوّية للبلاد، وتعليق الدستور، وحلّ الحكومة والمجلس التشريعي الانتقالي. والظاهر أن هذه القرارات لم تتمّ بالتشاور مع أيّ قوة تقليدية في الإقليم، ما يعني أن المجلس العسكري ينوي انتهاج «سياسات وطنية» بالأساس، ومواجهة أيّ ضغوط إقليمية ودولية مرتقبة، كما في تجربة مالي. وتخدم ذلك الخيارَ حقيقة كوْن بوركينا فاسو في وضع أفضل من دول أخرى من ناحية التركيب القطاعي فيها (يقوم الدخْل أساساً على الزراعة والذهب)، ما يفقد العقوبات الاقتصادية المحتمَلة عليها جزءاً كبيراً من فاعليتها، وهو ما لا يتوافر في الحالة المالية مثلاً. ويضاف إلى ذلك أن تجربة الرئيس الشاب الأسبق، توماس سنكارا، لا تزال حاضرة في وجدان الشعب البوركيني، وأن التقارب مع روسيا يحظى بالفعل بدعم شعبي، الأمر الذي سيسهّل الاستفادة منه في تعزيز «شرعية» المجلس العسكري، ودعم قدراته على مواجهة الإرهاب، وعلى المدى البعيد مدّ سيطرة الحكومة البوركينية على أرجاء البلاد كافّة، على النحو الذي تشهده مالي تدريجياً بفضْل الدعم الروسي، إلى جانب عوامل داخلية أخرى.