شنَّ نظام الأسد طوال أكثر من خمسة عقود حملة وحشية استثنائية ضدّ حرية الصحافة، استعمل فيها الترهيب المتواصل لإسكات الاعتراضات وكمِّ أفواه كل من يتجرؤون على نقل الحقيقة. تعرَّضَ الصحفيون-ات والإعلاميون-ات للملاحقة والتعذيب والإخفاء القسري والسجن والنفي، فيما تعرضت عوائلهم-ن للمضايقة والابتزاز والترهيب.
في خضمّ ذلك كلّه، نجحت الثورة السورية منذ عام 2011 في إطلاق قطاع إعلامي بديل ومستقلّ ومُزدهِر. ونتيجة التضحيات الكبرى والشجاعة لمن عملوا فيه، نجح هذا القطاع في تحطيم جدار الصمت الذي تمترسَ وراءه النظام لعقود. ورغم تَواصُل العُنف والتضليل والتشويه والتخوين الذي طال الأصوات الناقدة لنظام الأسد، وكذلك طال كل من يُسيء استعمال السلطة التي بين يديه، بقي الصحفيون المستقلّون والصحفيات المستقلّات يعملنَ على تسهيل التبادُل الحرّ للمعلومات. قاموا وقُمنَ بتجميع السرديات، والتحقُّق من الوقائع المتعلقة بالاحتجاجات السلمية والأنشطة المدنية وجهود الحكم الذاتي، وتوثيق الاشتباكات والفظائع وجرائم الحرب، وقدّموا للأحداث السريعة والمُتلاحقة سياقها الذي يُساعد على شرحها، ووضعوا الأدلة والمصادر في تصرّف الجمهور. كان عملهم سعيًا حثيثًا لمحاسبة جميع الجُناة على أقوالهم وأفعالهم، وصوتًا عاليًا يمدّ يده إلى الأصوات غير المسموعة. وكانوا يفعلون كل ذلك بقصد الإحاطة بالتجربة الإنسانية الشاسعة التي كانوا يحاولون التقاطها ونَقلها، بكل حُزنها المُريع وحُسنها بالغ الأثر، فأصبحوا بذلك مُؤرِّخي آلام الشعب وشهودًا على مَنَعَتِه في وجه المصائب.
كانت تكلفة مساعي البحث عن الحقيقة، ومُشاركتها، مَهولة بالنسبة لمن تجرّأوا على العمل في الصحافة والإعلام. منذ بداية الثورة وثّقَت رابطة الصحفيين السوريين والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير وغيرهما آلاف الانتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة بحقّ الصحفيين-ات والإعلاميين-ات ومؤسساتهم-ن. أما مراسلون بلا حدود فقد وثّقت مقتل 283 صحفيًا وصحفية قُتلوا بسبب ممارستهم الصحافة، منهم 161 على يد نظام الأسد، والعشرات الباقية على يد قوى أخرى مشغولة بقمع الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك، تَعرَّضت أعدادٌ لا تُحصى من المراسلين-ات للإيذاء البدني أو النفي أو الإسكات، وخُرِّبت بيوت بأكملها بسبب الاضطهاد الذي لا يرحم. ولكن كل هذه الخسائر الفادحة لم تردع الإعلام السوري المستقلّ يومًا، فقد ظلّ ثابتًا في عزمه على كشف الحقيقة ومُحاسبة كل من يقف معترضًا على ذلك العزم.
إسقاطُ نظام الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 شكّلَ لحظة محورية في تاريخ سوريا، جاءت نتيجة شَجاعة وتضحيات شعبها التي لا تَلين. وكانت وسائل الإعلام السورية المستقلة في طليعة من وثَّقَ هذا التحوّلَ التاريخي. ففي عمله طوال السنوات الثلاثة عشرة الماضية، نما هذا القطاع وخرَّجَ أفرادًا يمتلكون المهارات والكفاءات اللازمة ليتحوّلوا من مواطنين شهودٍ عيان إلى صحفيين محترفين. وعلى أساس هذا التحوّل، سيواصل هؤلاء الصحفيون-ات والإعلاميون-ات دورهم في مستقبل لا يكون قمعُ الحقيقة فيه ممكنًا، ولا يُهيمن فيه أي نظام سياسي على قصة الشعب. هكذا يمثّل الإعلام السوري المستقل علامة ونتيجة للكفاح الثوري المتواصل من أجل الكرامة والعدالة والحرية.
مطالبات من أجل حرية الصحافة
تؤكد وسائل الإعلام المستقلّة المُوقِّعة أدناه إيمانها أنَّ السلطة تكون الديكتاتورية نتيجةَ أفعالها وتَقاعُسها عن واجباتها، وليس نتيجة هوية الشخص الذي يترأّسها فحسب. على ذلك، وانطلاقًا من إيمانها بأن الصحافة الحرة احتياج جوهري ولا جدال فيه، تدعو وسائل الإعلام المستقلة الموقعة أدناه إلى حماية الصحافة الحرة في كافة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الناشئة في سوريا ما بعد الأسد.
إن الإعلام الحرّ الحقيقي يتطلّب:
1- العدالة والمُساءلة: يجب أخذُ جميع مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين-ات والإعلاميين-ات إلى المحاكم، بما في ذلك المسؤولين عن حالات الاختفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء. ويجب إطلاق سراح جميع الصحفيين-ات والإعلاميين-ات المحتجزين، وعدم إظهار أي تَسامُح مع أوضاع الإفلات من العقاب، خصوصًا فيما يخصّ الاعتداءات على العاملين في الإعلام.
2- إلغاء وزارة الإعلام: وأيضًا كافة أشكال الرقابة على وسائل الإعلام، وبدلًا من ذلك يجب إنشاء هيئة رقابية مُستقلّة من خلال عملية تَشارُكية تضمُّ المؤسسات الإعلامية السورية، ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحرية التعبير والإعلام، والصحفيين-ات والعاملين-ات في المجال بشكل مستقل، وبإشراف خبراء محليين ودوليين، وذلك بهدف منع السلطة التنفيذية من التدخُّل في العمل الإعلامي الرقابي.
3- الحماية القانونية لحرية التعبير والصحافة: ترتبط حرية الصحافة ارتباطًا وثيقًا بحرية التعبير. لذلك يجب إلغاء القوانين التي تتعارض مع أيٍّ منهما فورًا، بما في ذلك القانون رقم 20 لسنة 2022 (قانون الجرائم الإلكترونية)، والقانون رقم 19 لسنة 2012 (قانون مكافحة الإرهاب)، ومشروع قانون الإعلام الأخير لعام 2024، وكلها تتلاعب بشكل صارخ بالمبادئ القانونية من أجل إسكات المُعارَضة. ويجب أيضًا تطوير تشريعات حديثة تتماشى مع المعايير الدولية ومبادئ القانون الدولي، بما يضمن التنظيم المتكامل وحماية الحقوق والحريات، وبما يعزز بيئة آمنة ومواتية للعمل الإعلامي. وبدلًا من القوانين المُلغاة، يجب إنتاج إطار قانوني يضمن المبدأ الأساسي من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريةَ اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاءَ الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تَقيُّد بالحدود الجغرافية». لذلك يجب أن يتمتع الصحفيون بحرية البحث عن الحقيقة ونشرها دون خوف من الاضطهاد، ويجب أن يتحرّروا من أعباء الإكراه الحكومي وغير الحكومي، ومن الرقابة، ومن النفوذ السياسي غير المُبرَّر. كما يجب وضع ضمانات لمنع الدولة من إجبار الصحفيين-ات على الكشف عن مصادرهم، وذلك بما يمكّنهم-ن من مُساءَلة الحكومة بطريقة لا تُلحِقُ الضرر بأي شخص يشارك في جهود كشف الحقيقة، بما في ذلك الصحفيون والصحفيات أنفسهم.
4- الضمانات الدستورية: يجب دمج الحقوق والحريات الإعلامية المكفولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبشكل لا لبس فيه ولا رجعة عنه، في نص الدستور، مع تضمين إشارات واضحة إلى الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
5- مشهد إعلامي حرّ وتعدُّدي: لا يجوز للدولة أن تحتكر عمليات تَبادُل المعلومات، بل يجب أن تتخذ جميع الخطوات اللازمة لتسهيل ومنح فرص متساوية لأيِّ وكلِّ مؤسسة إعلامية أو عامل-ة في المجال بما يسمح بالوفاء بمتطلبات العمل.
الأولويات الانتقالية العاجلة
حظرُ الرقابة: يُمنَعُ منعًا باتًا فرضُ أي رقابة على وسائل الإعلام، أو الصحفيين المستقلين، أو مصادرة صحيفة أو إيقافها أو إغلاقها. لا يجوز السماح بالاستثناءات إلا في حالات مؤقتة ومُحدَّدة بشكل ضيق، وبما يتوافق مع القيود الموضحة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
الحماية القانونية للآراء والتقارير: لا يجوز أبدًا استخدام آراء الصحفي-ة أو الإعلامي-ة أو التقارير العيانية أساسًا لاتخاذ إجراء قانوني بحقه أو بحقها، ويجب عدم إجبار الصحفيين على الكشف عن مصادرهم.
حماية حقوق الصحفيين: يجب حماية الصحفيين من أي انتهاك للكرامة أو السلامة الجسدية أو المكانة الأخلاقية بسبب أعمال منشورة، ولا يجوز مقاضاة الصحفي أو الصحفية نتيجة التعبير عن آراء أو نشر معلومات خلال عمله أو عملها المهني.
عدم الحرمان من الحرية: لا يجوز فرض عقوبة الحرمان من الحرية على أي جرائم مُتعلِّقة بالنشر، إلا في الحالات التي تنطوي على التحريض على العنف أو الكراهية، ولا يتم ذلك إلا من خلال الإجراءات القانونية الواجبة واللجوء إلى العدالة.
حماية مواد العمل الصحفي: لا يجوز استخدام الوثائق والبيانات والمواد الأخرى التي يحتفظ بها الصحفيون والصحفيات كأدلة ضدهم في التحقيقات الجنائية، ما لم تُشكِّل حيازُتها أو الحصول عليها جريمة بشكل مستقل.
الحماية من التفتيش غير القانوني: لا يجوز تفتيش أو احتجاز أو استجواب الصحفي-ة نتيجة نشاط مهني، إلا في حالات الجرائم الصارخة. بالإضافة إلى ذلك، لا يجب أن تكون أدوات العمل – مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والكاميرات والوثائق – عُرضَة للمصادرة.
حق الحصول على المعلومات العمومية: يجب أن يتمتع الصحفيون والصحفيات بضمان الوصول إلى المعلومات العامة، سواء كانت تشريعية أو قضائية أو حكومية أو إدارية، ويجب أن يتمتعوا بحرية نشر هذه المعلومات دون قيود.
المساواة في الوصول إلى المعلومات: لا يجوز إعاقة الوصول إلى المعلومات أو نشرها بأي شكل. ويجب ضمان تكافؤ الفرص لجميع أشكال الإعلام ووسائله، بما في ذلك المطبوعة والإلكترونية والمرئية والمسموعة.
التيسير المؤسسي: يجب على الهيئات الحكومية والمؤسسات العامة إنشاء آليات – مثل المكاتب أو المواقع المخصصة – لتسهيل وصول الصحفيين إلى المعلومات.
حماية المصادر: يجب حماية المصادر والأشخاص المُساهمين في إنتاج العمل الصحفي. ولا يجوز انتهاك السرية إلا بموجب إذن قضائي مُلزِم، وحصرًا في الحالات التي تنطوي على جرائم تشكل تهديدات كبيرة للسلامة العامة، وفقط في حالة عدم وجود وسيلة بديلة للحصول على المعلومات.
حرية النشر ونزاهة الترخيص: يجب أن يكون النشر حرًا وغير خاضع لترخيص مسبق. يجب أن تتولى عمليات الترخيص والاعتماد هيئةٌ تنظيميةٌ مُستقلّة، فقط لأغراض الحفاظ على نزاهة المهنة وضمان سلامة العاملين فيها. ويجب عدم التلاعب بالترخيص، وعدم تحويله إلى أداة بيروقراطية لتقييد حرية الصحافة.
إلغاء القيود اللغوية: الإلغاء والإبطال الفوري لجميع القيود اللغوية في لوائح الإعلام، والتي كان يستخدمها نظام الأسد لانتهاك الحقوق الثقافية للإثنيات السورية المتنوعة. لقد أعاقت هذه القيود أيضًا عمل الإعلام والصحفيين-ات المستقلين-ات العاملين باللغات الكردية والسريانية والأرمنية وغيرها، ولا بدَّ من إزالة هذه القيود لتعزيز بيئة إعلامية استيعابية وكريمة.
ضمان الحرية والسلامة للصحفيات: ضمان حرية وسلامة الصحفيات والإعلاميات في أداء واجباتهنّ المهنية دون أن يخفنَ التحرُّشَ أو التمييز أو العنف. وهذا يستلزم آليات قانونية ومؤسسية قوية لمعالجة التهديدات القائمة على النوع الاجتماعي، وتوفير فرص متساوية للتقدم الوظيفي في قطاع الإعلام.
رفع القيود المفروضة على التمويل: يجب إزالة التدابير التقييدية المفروضة على مصادر التمويل الأجنبية والوطنية، وتمكين المؤسسات الإعلامية من تلقي المِنَح والتبرُّعات وتجميع أرباح الإعلانات، وهو أمر ضروري لإعادة بناء قطاع إعلامي حيوي ومستقر.
خاتمة
لا ينبغي لانهيار نظام الأسد أن يكون فقط طيًّا لزمن الخوف والقمع، بل أيضًا بدايةً لصفحة جديدة في تاريخ البلاد. ينبغي أن تكون هذه الصفحة ناصعة في موقفها من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية. إن حرية الصحافة ليست فقط حجر زاوية المجتمع الديمقراطي، بل هي قلبه النابض، وحبل نجاته المُتمثّل في الحقيقة والمُساءَلة والذاكرة الجماعية للشعب. وبدون حرية الصحافة، ستتعثر الديمقراطية.
(اخبار سورية الوطن-عنب بلدي)