| محمد نور الدين
مثقلةً بصدى زيارتها لتايوان، جاءت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لأرمينيا لترسم صورة «الأميركي المستفزّ». وفيما لا تزال أبعاد الزيارة تنتظر وقتاً لتنضج، ثمّة مَن أن يشير إلى أنها تشكّل إشارةً أولى إلى تَجدُّد الاهتمام الأميركي بالقوقاز الجنوبي، أو أن «الرئيسة» لا تريد سوى كسْب أصوات الشتات الأرميني في الولايات المتحدة مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس. وفيما كانت بيلوسي تجول في يريفان لـ«دعم الكفاح العالمي ضدّ الاستبداد»، وصل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لا يزال يأمل لقاء نظيره الأميركي، جو بايدن، المشغول هو الآخر بالانتخابات
جاءت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لأرمينيا، والتي وصفتها الصحافة التركية بـ«الفضيحة»، لترسم صورة واضحة لـ«الأميركي المستفزّ»، ولا سيما أنها أعقبت بقليل زيارة هذه المسؤولة لتايوان. وإذ لم تفعل واشنطن شيئاً لمساندة أرمينيا في حربها التي انتهت بهزيمة مذلّة لها أمام أذربيجان – وُصفت بأنها «الكارثة الكبرى الثانية» بعد الأولى عام 1915-، فلا يمكن النظر إلى خطوة الزيارة على أنها «دفاع عن أرمينيا». وبرأي معظم المحلّلين الأتراك والأذربيجانيين، فإن بيلوسي سعت من وراء محطّتها هذه إلى بحْث سُبُل التصدّي لروسيا بعد حرب أوكرانيا، من أجل إرباكها وحليفتها الصين، سواء في تايوان أو في جنوب القوقاز، ولا سيما بعد انعقاد «قمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند. كما جاءت الزيارة على أمل كسْب أصوات الشتات الأرميني في الولايات المتحدة مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي في 8 تشرين الثاني المقبل، علماً أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، كان أوّل رئيس يعترف بالإبادة الأرمينية في نيسان من العام الماضي. وغطّت تصريحات بيلوسي أكثر من اتجاه: فهي أرادت أوّلاً شدّ عصب رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، من أجل استمرار تمسّكه بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وخصوصاً أن الرَّجل ممتعض من كون روسيا ومعها دول «منظمة الأمن الجماعي»، لم تتدخّل دفاعاً عن أرمينيا خلال الاشتباكات الأخيرة مع أذربيجان، ما جعلها فرصة لتثبيت أقدام باشينيان في المعسكر الأميركي. ومن التصريحات التي أدلت بها في يريفان والمعادية لأذربيجان، كان واضحاً، ثانياً، أن بيلوسي تريد كسْب ودّ باشينيان أكثر من استعداء باكو. فالعلاقات الأميركية – الأذربيجانية على خير ما يرام، حتى إن الولايات المتحدة، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، كانت خلْف سحْب أذربيجان إلى المعسكر الغربي والإسرائيلي، من خلال الدعم العسكري والتكنولوجي والاستخباري، كما من خلال ربْط تصدير النفط والغاز الأذربيجاني بخطّ باكو – تبيليسي – جيحان عبر جورجيا في نهاية التسعينيات، وبدعم مباشر من الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون. لهذا، لا يبدو مقنعاً أن تأتي بيلوسي في هذا التوقيت لتستفزّ أذربيجان، وتقول: «إن على باكو أن تقبل بحقيقة أنها هي التي بدأت الهجمات (الأخيرة) غير القانونية والقاتلة على أرمينيا». لكن «الرئيسة»، ثالثاً، لم تكتفِ بتحميل أذربيجان المسؤولية، إذ إن انتقاداتها طاولت تركيا بصورة مباشرة لا تَحتمل اللُّبس: ابتداءً من زيارتها لنصب الإبادة في يريفان (على رغم أن زيارة النصب جزء إلزامي من بروتوكول زيارة أي ضيف أجنبي إلى هذا البلد، لكن الأتراك وضعوا الزيارة في خانة استفزاز بلادهم)؛ وثانياً، وهنا الطامة الكبرى بالنسبة إلى الأتراك، أن بيلوسي اعتبرت أن زيارتها إلى أرمينيا بمثابة «دعمٍ للكفاح العالمي ضد الاستبداد».
تُعدّ زيارة بيلوسي لأرمينيا إشارة أولى إلى تَجدُّد الاهتمام الأميركي بالقوقاز الجنوبي
لا شك في أن الأتراك متفاجئون من اللهجة الأميركية إزاءهم، وهو ما يمكن أن يكون مؤشّراً إلى استمرار مناخ التوتّر القائم بين تركيا والولايات المتحدة منذ وصول جو بايدن إلى السلطة، والذي ازدادت حدّته بعد مشاركة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في قمّة «شنغهاي للتعاون». لكن الزيارة، مع ذلك، تَحمل أبعاداً تتعدّى مجرّد انتقاد باكو وأنقرة. إذ يقول الجنرال التركي المتقاعد، غورسيل طوقماق أوغلو، إنها تُعدّ إشارة أولى إلى تَجدُّد الاهتمام الأميركي بالقوقاز الجنوبي، مرجّحاً أن يتبعها «زيارات لوفود أميركية أخرى، ليصار من بعدها إلى وضع تصوّر لِمَا يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هنا»، أي بمقصد «كيفية مواجهة النفوذ الروسي في القوقاز». ووفق هذا الجنرال، فإنه «إذا نظرنا مِن النافذة الكبيرة، فإن هذه الزيارة هي الخطوة الأولى لبدء العمليات الأميركية في المنطقة».
في ظلّ هذه الأجواء المشحونة، يسعى الرئيس التركي، مجدّداً، إلى لقاءٍ يجمعه إلى نظيره الأميركي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. فإردوغان الذي وصل إلى نيويورك قادماً من سمرقند، حيث شارك في قمّة «شنغهاي للتعاون»، جال وحيداً في حدائق المدينة، فيما كانت زعامات العالم الغربي تسير وراء جنازة الملكة إليزابيث في لندن. وهنا، أمكن طرح سؤال كيف يمكن دولةً وثيقةَ الصلة مثل تركيا ببريطانيا التي ترتبط معها بمعاهدات واتفاقات عسكرية وتجارية ويجمعهما «حلف شمال الأطلسي» ألّا تكون ممثلةً في الجنازة الملكيّة على مستوى رئيسها؟ على أن حجّة إردوغان لعدم المشاركة هي أنه يريد الحضور مواكَباً بأسطول سيارات للحماية يحملها معه من تركيا، وأنه لا «يناسبه» أن يستقلّ الحافلة مع الملوك والرؤساء الآخرين. وما حضور إردوغان إلى الأمم المتحدة، سوى محاولة منه للقاء بايدن، حتى وإن كان ذلك من أجل الصورة التي يعتقد أنها قد تساعده في التغلُّب على المصاعب الاقتصادية في بلاده، حيث يقترب سعر الدولار من 18 ليرة ونصف ليرة. ويرى الكاتب التركي مراد يتكين أن «من غير الواضح ما إذا كان الرجلان سيلتقيان. فعين بايدن على الانتخابات النصفية التي يريد الخروج منها بأقلّ الخسائر، وبالتالي لن يكون مهتماً كثيراً بلقاء إردوغان». لكن جائرة الترضية ستكون لقاءً يجمع إردوغان إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، يائير لابيد.