| فراس عزيز ديب
يعود الفرنسيون صباح اليوم إلى مكاتب الاقتراع لاختيار رئيس لهم بعد أن أفضت نتائج المرحلة الأولى إلى ترشح كل من الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وزعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبين إلى الدور الحاسم، ساعات تفصلنا عن معرفة الشخص الذي سيقود القوة الثانية في الاتحاد الأوربي، وسط ما يعيشه العالم أجمع من أحداث تجعل الشعور باقتراب حرب عالمية ثالثة هو الطاغي، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية التي تبدو أوروبا المتضرر الأكبر منها.
في الشكل، يبدو الحدث برمته صورة مطابقة عما حدث في انتخابات 2017 والتي أفضت إلى وصول ماكرون إلى السلطة، يومها كان الجميع يعلم بأنه لا مكان للمفاجآت وحلم الرئاسة الذي يراود عائلة لوبين منذ عقود سيتأجل خمس سنوات جديدة، اليوم لا يمكن التسليم بأن المفاجأة ستغيب عن هذه الانتخابات فالمفاجأة واردة ولو بنسب ضئيلة تحتاج إلى معجزة ليس من السهل تحققها، هذا الاختراق بحد ذاته يبدو إنجازاً عملت عليه الماكينة الانتخابية لليمين المتطرف بطريقة جيدة للاستثمار في المستقبل وبمعنى آخر حتى لو لم تحمل هذه الانتخابات تغييراً بالأشخاص لكنها ستحمل حكماً تغييراً في التفكير، فكيف ذلك؟
في العام 2010 أثارت مارين لوبين استياء الكثير من الفرنسيين بما فيهم الجمعيات التي تحارب ضد العنصرية عندما شبهت اضطرار بعض المسلمين للصلاة في الشوارع المحاذية للمساجد يوم الجمعة بسبب ضيق المساجد بالاحتلال النازي، يومها قالت إن حجز شارع لفرض الشريعة هو احتلالٌ ولو كان بلا جنود ودبابات، بدت لوبين يومها مضطرة لرمي هكذا قنبلة وهي تسير بهدوء باتجاه وراثة والدها جان ماري لوبين في رئاسة الحزب، أما في العام 2022 فإن مارين لوبين خلال احتفالها مع أنصارها بفوزها بالمركز الثاني المؤهل للدور الحاسم فإنها ركزت حرفياً على تحية الفرنسيين (أياً كانت جذوركم وأياً كانت ديانتكم).
حديث الجذور هنا لا يبدو بأنه يمر بالصدفة عندما يكون المخاطب زعيماً يمينياً متطرفاً، البعض قد يرى بأن هكذا عبارات هي نوع من الواقعية السياسية التي يريدها الحزب من أجل كسب الأصوات لا أكثر، لكن حتى هذه الواقعية كانت في السابق مرفوضة وشعار «فرنسا للفرنسيين» لم يكن بالنسبة لهم مزحة أو للاستهلاك السياسي، تحديداً لأن أدبيات اليمين المتطرف لا تعترف بالفرنسيين من أصول غير فرنسية، بعضهم مثلاً يرفض حتى تشجيع منتخب فرنسا لأنه حسب زعمه منتخب المهاجرين وليس الفرنسيين! شبه الانقلاب هذا يبدو حديث العهد لكنه حكماً ليس النهاية فالحزب فيما يبدو قرر تدريجياً إعادة صياغة خطابه حتى يتمكن من إيجاد القبول عند من تمسهم مفرداته تحديداً إنه في الشق الاقتصادي والاجتماعي وحتى على مستوى السياسة الخارجية يقدم برنامجاً يبدو الأفضل ومن المحزن أنه لم يستطع استثماره حتى الآن عبر السلطة التنفيذية بسبب التعنت في الخطاب، هذا كان واضحاً مثلاً في المناظرة الأخيرة يوم الأربعاء الماضي بين لوبين وماكرون التي وإن كانت نتيجتها لا غالب ولا مغلوب، لكنها أعادت تكوين صورة مارين لوبين لدى الكثيرين بمعزل عن خطاب الكراهية، حتى حديثها عن منع الحجاب في المباني الرسمية ليس بالجديد لكنه حسب ماكينتها الانتخابية في آخر أولوياتها ويأتي في إطار منع الرموز الدينية ككل وبمعنى آخر سيصبح دخول الراهبة ممنوعاً إن كانت ترتدي الحجاب، فهل قرر الحزب فعلياً أن يستمع إلى نصائح الأصدقاء؟! لعله كذلك وتحديداً التخلي عن تلك العبارات التي تقصي الآخر ولا تعترف به على طريقة كل ما يمكن وصفهم بالمتطرفين دينياً أو قومياً. ربما لأن هذه الحركة جاءت متأخرة، فالاستحواذ على أصوات ملايين المهاجرين يحتاج إلى الكثير من التراكمات للبدء ببناء الثقة، تحديداً أن معركة الرئاسة و إن كانت قد حسمت إلا أن المعركة الأهم لا تزال قابلة لتقديم منتصر جديد يقلب الطاولة على الجميع فما هي؟
عادةً ما ينتظر الفرنسيون خطاب كل مرشح خاسر في الدور الأول نظراً لأن هذا الخطاب يحمل توجيهاً مباشراً أو غير مباشر لمناصريه للتصويت بهذا الاتجاه أو ذاك، قبل خمسة عشر يوماً كانت الأنظار متجهة نحو اليساري العتيد جان لوك ميلانشون، فمع النسبة التي حققها والتي وصلت إلى 22 بالمئة أي سبعة ملايين وسبعمئة ألف صوت فإنه يتمتع بكتلة انتخابية وازنة قادرة أن تنقل الانتصار من طرف إلى آخر وهو ما دفع بصحيفة «لو باريسيان» للقول «إن مباراة النهائي بين ماكرون ولوبين سيكون حكمها جان لوك ميلانشون». لم يخيب ميلانشون التوقعات وطلب من مناصريه التصويت لماكرون بل وكرر عبارته ثلاث مرات: «أرجوكم لا تمنحوا السلطة للوبين»! على الرغم من التعارض الكبير في الأفكار بين الرجلين تحديداً أن ميلانشون كان الداعم الأول للسترات الصفراء الذين قادوا الاحتجاجات قبل عامين ضد سياسات ماكرون، مع ذلك بدا غريباً عند الكثيرين أن يفضل ميلانشون «رأس المال» على «اليمين المستحدث»، هو تسليف موقف بنظرة مستقبلية كلمة السر فيها الصراع على منصب رئيس الوزراء القادم، يبدو وكأن ميلانشون بدأ منذ الآن يطمع في زيادة كتلة الأصوات تلك، ماذا لو استثمرها في الانتخابات التشريعية القادمة؟
أياً كانت هوية الرئيس مساء اليوم فإن فرنسا عملياً ستدخل مرحلة انتقالية حتى نهاية حزيران القادم موعد انتهاء الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة الجديدة، وفي ظل التراجع الكبير للحزبين التقليديين الاشتراكي والجمهوري أو ما عرف سابقاً بالحزب الديغولي فإن الساحة ستبقى مفتوحة للصراع الثلاثي ذاته الذي شاهدناه في الانتخابات الرئاسية، المعركة الحقيقية ستكون هنا لأن فشل حزب الرئيس ماكرون بتحقيق الأغلبية سيجعل انتصاره بلا معنى ويجبره على التعايش مع أغلبية برلمانية إما يمينية متطرفة أو ذات توجهات يسارية، هو الاعتقاد السائد اليوم بأن الناخب الفرنسي لم يشأ معاقبة ماكرون في الانتخابات الرئاسية خوفاً من المجهول، لكن العقاب سيكون في الانتخابات التشريعية التي قد تحمل الكثير من المفاجآت تعيد للأذهان الفترة التي كان فيها الديغولي جاك شيراك رئيساً للوزراء والاشتراكي فرانسوا ميتيران رئيساً للجمهورية وما شهدته البلاد يومها من جمود على كل الأصعدة فماذا ينتظرنا؟
قبل اندلاع أحداث العام 1968 بأيام قليلة والتي أدت إلى ثورة طلابية لاقتها الحركات العمالية لتنتفض بعدها فرنسا عن بكرة أبيها، نشرت صحيفة اللوموند مانشيتاً بعنوان: «فرنسا تعيش الملل»، اليوم تبدو فرنسا فعلياً أمام مفترق طرق أساسه ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فإما أن يعيد اليمين واليسار خلط الأوراق للخروج من الروتين السياسي الذي يمتص قواعد الجمهورية الخامسة، أو أن يدفع فوز ماكرون بالرئاسة والأغلبية البرلمانية معاً صحيفة اللوموند للبحث في أرشيفها واستعادة هذا العنوان، قد لا تبدو الصحيفة مضطرة أن تشرح ما جرى بعد ذلك وإلى أين وصلت الأحداث الدامية تحديداً أن المستهدف يومها كان رجلاً بحجم شارل ديغول، مع ذلك لم يسلم من ملل فرنسا.. وتململ الفرنسيين!
سيرياهوم نيوز3 – الوطن