آخر الأخبار
الرئيسية » تربية أخلاقية وأفعال خيرية » بين التوراة والعلوم الحديثة: جنوب لبنان جزء من «إسرائيل» أم العكس؟

بين التوراة والعلوم الحديثة: جنوب لبنان جزء من «إسرائيل» أم العكس؟

علاء اللامي

 

 

 

في آخر مقالة لي نُشرت في «الأخبار» (16 تشرين الثاني 2024)، كتبتُ أنَّ إقليم فينيقيا مجاور لشمال فلسطين ويتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى. ما لم أقله حينها، لانعدام الحاجة والسياق، هو أنَّ من حق اللبنانيين أن يقولوا إنَّ الجليل كان جزءاً جنوبياً من فينيقيا، مثلما أن من حق الفلسطينيين القول إن فينيقيا كلها كانت جزءاً شمالياً من أرض كنعان.

 

كلام رغبوي خارج السياق

الجديد، هو أن موظفاً إعلامياً في مكتب نتنياهو يدعى مايكل فرويند، كتب مقالة في صحيفة «جيروزاليم بوست» (عدد 17 تشرين الثاني- نوفمبر 2024) عنوانها: «جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل». فما علاقة الكيان الصهيوني المصطنع «إسرائيل» بالعلاقة بين فينيقيا وأرض كنعان القديمتين، بل وما علاقة الكيان القديم «مملكة إسرائيل» الوثنية والتي لعنتها ولعنت ملوكها التوراةُ بهذه السياقات؟

كتب فرويند: «الحقيقة هي أن الحدود الحالية بين إسرائيل ولبنان لا يزيد عمرها على قرن من الزمان وهي حدود مصطنعة بالكامل»، وكأن حدود كيانه ليست مصطنعة، وهو يعلم أنه لولا الأموال والسلاح الأميركي الإبادي لما استمر قائماً بضعة أشهر لا بضع سنوات! ويضيف أن هذه الحدود «هي من بقايا زمن كان فيه المستعمرون الأوروبيون يرسمون خطوطاً على الخرائط على زجاجة البراندي في غرف مليئة بالدخان. من الناحية التاريخية، فإن جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل، وجذور الشعب اليهودي في المنطقة عميقة». إنَّ فرويند يتناسى أن كيانه «إسرائيل» قد رسم خريطته أحد المستعمرين الأوروبيين ويدعى بلفور في غرفة لا تقل دخاناً ودماء.

وإذا كان من حق فرويند ومشغله ميليكوفسكي (نتنياهو) أن يعودا إلى قصة إسرائيل الوثنية على أرض كنعان أو إلى أرض مملكة يهوذا التوحيدية، فإنَّ من حق اللبنانيين والفلسطينيين اليوم أن يعودوا أيضاً إلى تلك الحقب التاريخية السحيقة ويطالبوا بطرد محتلي أرض كنعان. والحقيقة فلا علاقة لغزاة اليوم، لا بأرض كنعان ولا حتى بالعبرانيين أو ببني إسرائيل القدماء. فهؤلاء الذي يزعمون أنهم يهود إنما هم متهودون من شعوب وأعراق أخرى، وقصة صعود وانهيار مملكة الخزر وملكها المتهوِّد إيبوزير جالي فان (960 -715 م) جنوب روسيا موثقة ومعروفة.

 

عشرون مدينة فينيقية في الجليل

إنَّ أدلة فرويند وحججه ليست إلا اقتباسات انتقائية من التوراة: فمن سفر التكوين (10:19) يقتبس «حدود كنعان تمتد من صيدا نحو جِرار إلى غزة». ثم يقفز من هذا الواقع الجغراسياسي لما قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ليتحدث عن صيدا المعاصرة ثم يقتبس من سفر التكوين (49: 13) دليلاً توراتياً آخر هو البركة التي منحها «بطريركنا التوراتي يعقوب أبناءه الإثني عشر، وكانت البركة التي أعطاها لابنه زبولون تنص على «ويسكن زبولون عند شاطئ البحر ويكون ميناء سفن، ويكون تخومه إلى صيدا»». ومن سفر يشوع (13: 6) يقتبس ورود اسم صيدا صراحةً باعتبارها «المدينة الموعودة للشعب اليهودي، أن حدود سبط آشير كانت تمتد إلى صيدا».

من السهل أن نرد على فرويند وزملائه باقتباسات مضادة من التوراة نفسها، ونطالبهم بإعادة عشرين مدينة في الجليل منحها الملك سليمان للملك الفينيقي حيرام كمقابل لما بعثه له هذا الأخير من ذهب وأخشاب أرز كما ورد في الإصحاح التاسع من سفر الملوك الأول لنقرأ (9 :11) من هذا السفر: «وكان حيرام ملك صور قد ساعف (أسعف – زوَّد) سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرته، أعطى حينئذ الملك سليمان حيرام عشرين مدينة في أرض الجليل ويعيد إلى أحفاد حيرام في صيدا تلك المدن العشرين في الجليل». وكلام التوراة واضح في أن هذه المدن ستعاد إلى أحفاد حيرام أي إنها فينيقية في الأصل! فهل سيعيد فرويند وحكومته هذه المدن العشرين لأحفاد حيرام في صيدا المعاصرة أم أنه سيأخذ من التوراة ما يعجبه فقط؟

ولكننا لن نلجأ إلى النصوص الدينية لأن مدارها وجوهرها دينيان، غيبيان، وأخلاقيان، ولا علاقة لهما بمناهج البحث العلمي الحديث في ميادين الإناسة والآثار والحضارات القديمة بل سنلجأ إلى سجلات العلم لنلاحظ:

-إن الدول في عصرنا الحاضر لا تقوم وتحدد حدودها بناء على ما يرد في الكتب الدينية كالتوراة وغيرها، فالتوراة تُلزِمُ المؤمنين بحرفيتها وصدقيتها فحسب، ولكنها غير مُلزِمَةٍ لغير المؤمنين بها أو المتضررين منها!

بكلمات أخرى؛ إذا كانت التوراة مُلزِمة لفرويند فما حجيتها وإلزامها على المسلمين الذين يعتبرون التوراة والأناجيل الحالية محرفة ومختلفة عن تلك التي أنزلت على الأنبياء؟ ولنفترض أن فرويند وجد لبنانيين يتفقون معه على مرجعية التوراة التي تقول إنَّ صيدا هي المدينة الموعودة للشعب اليهودي، فهل سيتفق معهم على تنفيذ ما قاله الإصحاح العاشر من سفر الملوك عن فينيقية عشرين مدينة في الجليل ويعيدها إليهم؟

إن الاحتكام إلى النصوص الدينية لم يعد من عوامل تأسيس الدول ورسم حدودها ولا دور لها في تأصيل وتكريس المعاهدات الدولية في عصرنا، وإنَّ علوماً أخرى بدأت تتخصص في دراسة التاريخ القديم وفروعه المختلفة كتاريخ الإنسان واللغات المنقرضة والحية والحضارات، تعتمد الأدلة الآثارية الملموسة والمؤكدة مختبرياً بنظائر الكاربون المشع 14 وعلم الموروثات والهندسة الجينية وعلوم الألسنيات واللغات القديمة والصوتيات… إلخ.

لن نغوص كثيراً في موضوع التفريق بين الكنعانيين والفينيقيين والعلاقة بينهما، وهل هما شعبان أم شعب واحد سكن إقليمين فصار لاحقاً شعبين (كنعانيو الداخل وكنعانيو الساحل). ولكننا نعلم من التأريخ أن النشاط البحري التجاري الفينيقي كان قوياً في عهد الدولة المصرية الوسطى (2050 – 1710 ق.م) فصاعداً، وثمة صورة منحوتة لسفينة فينيقية رسمت على جدران أحد المعابد المصرية تعود إلى عام 1400 ق.م. أمّا الحدود التخمينية بين الجليل الفلسطيني وفينيقيا الجنوبية، فهي متداخلة كما قلنا منذ أقدم العصور.

 

لنفترض أن فرويند وجد لبنانيين يتفقون معه على مرجعية التوراة التي تقول إنَّ صيدا هي المدينة الموعودة للشعب اليهودي، فهل سيتفق معهم على تنفيذ ما قاله الإصحاح العاشر من سفر الملوك عن فينيقية عشرين مدينة في الجليل ويعيدها إليهم؟

 

فينيقيا وفلسطين القديمتان

ولكننا، نضع اليد على واحدة من تجليات الظاهرة الحدودية الجنينية بين الإقليمين، فقد تحول جبل الكرمل في الجليل إلى فاصلة تحجز بين الفينيقيين والقادمين الجدد «الفلسطة». ولهذا ما عاد الساحل الفلسطيني إلى جنوب الكرمل يدخل ضمن فينيقيا بعد ذلك التاريخ (القرن الثاني عشر ق.م) وصار اسمه (ساحل بلستيا)، كما يكتب يوسف سامي اليوسف في «تاريخ فلسطين عبر العصور» – ص. 58.

لقد كانت حدود فينيقيا الشرقية (الآسيوية) في أقصى اتساع لها، تمتد من كوراسيزيوم جنوب تركيا الحالية وحتى ربيحو (رفح) جنوب فلسطين (خريطة الأبرشية المشرقية)، ثم تقلصت وأمست تمتد من جنوب أوغاريت الكنعانية وحتى شمال مدينة مجيدو (تل المستلم) شمالي فلسطين الكنعانية. ثم انكمشت أكثر ولم تعد تتجاوز حدود مدينتي صور وصيدا وريفيهما. أما فينيقيا الغربية الأفريقية وعاصمتها قرطاجنة «قرت حدشت/ قرية حديثة»، فلها شأن آخر. فعن أي فينيقيا يريدنا فرويند أنْ نتحدث؟

 

كلمة إسرائيل ليست عبرية ولا يهودية

إذا كان الموظف في مكتب نتنياهو يحشد أدلته وبراهينه من كتابه المقدس فهذا شأنه، أما نحن، فسوف نستقرئ ما تقوله العلوم والأبحاث التأريخية والأنثروبولوجية وعلوم مقارنة الأديان والحضارات:

-تقول الإيتيمولوجيا (علم التأثيل اللغوي) إن كلمة «إسرائيل» نفسها لا علاقة لها باللغة العبرية في طورها التوحيدي فهي تتألف من (إسرا) التي تفسرها التوراة نفسها بـ«صرع» في عبارة «صرع الله» التي صارت لقباً ليعقوب بعد أن صرع يعقوب الإله فجراً (تك 32:28). كما وردت للكلمة عدة معانٍ أخرى منها «جندي ئيل، عبد ئيل، وأسير ئيل» مع ثبات اسم (ئيل) كبير الألهة الوثنية في بلاد الرافدين وأرض كنعان القديمة كلها. ومن تركيباتها بابل = باب ئيل، العاصمة الرافدانية المعروفة، وكربلاء «كرب ئيل = قرب ئيل. ومن أسماء الملوك الآراميين الوثنيين القدماء لدينا قائمة طويلة تنتهي باسم الإله ئيل ومنهم ملك دمشق حزائيل الذي قاد تحالف ممالك المدن الآرامية ضد الغزو الآشوري في (853 ق.م). وعلى هذا فكل اسم ينتهي بـ(ئيل) هو وثني تعددي ولا علاقة له بالعبرانيين واليهود الموحدين وإلههم «يهوه».

-تقول الفيلولوجيا (فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة) إنَّ هناك إلهاً فينيقياً وثنياً يدعى «إسرائيل». تكلم عنه مؤرخ وكاهن فينيقي يدعى سنخوناثان (سَنْكُنْيَتُنْ) في كتابه عن تاريخ الفينيقيين، وترجمه إلى اليونانية الكاتب الفينيقي فيلون الجبيلي. وقد كتب الراحل زكريا محمد في مقالة مهمة له («الأخبار»، 1 كانون الأول 2018) أن هذا الكتاب لم يصلنا «لكن فقرات منه وردت في كتابات الكتاب المسيحيين الفلسطينيين. وهناك على الأخص فقرة مهمة جداً من يوسيبيوس تعلمنا بوجود هذا الإله: «أما كرونوس (ساتيرن) الذي يدعوه الفينيقيون إسرائيل، والذي ألّه بعد موته، وجُعل في النجم الذي يحمل اسمه، فإنه عندما كان ملكاً، كان له ابن وحيد من حورية تدعى أنوبرت، ولهذا ما زال الفينيقيون يسمونه بالوحيد. وحين أحاقت بأرضه مصائب الحرب، فقد زيّن المذبح، وألبس ابنه الرموز الملوكية وضحى به» (Richmond, (1876، Cory’s Ancient Fragments, Page21-22».

-وإنَّ صهيون كلمة كنعانية وهي وصف طوبوغرافي باللغة الكنعانية لجبل في ضواحي القدس، كما يقول الباحث المقدسي إيهاب الجلاد، الذي يرى أن «الجبل حين ذُكر باسمه هذا في التوراة فهذا يعني أنه موجود قبل ظهور بني إسرائيل، وما جاء كان وصفاً لمكان قائم أصلاً»، مضيفاً أن «صهيون أحد أسماء مدينة القدس قديماً. وعدا عن جبل صهيون بالقدس، يحمل جبلٌ في ريف اللاذقية بسوريا، وآخر في اليمن، اسم «صهيون» كناية عن علوهما ومنعتهما».

 

الإله إسرائيل الفينيقي

بالعودة إلى ما كتبه الراحل محمد زكريا، نجد أنه ربط بين هذا الإله ومملكة إسرائيل القديمة الشمالية، والتي وصفناها بالوثنية التعددية، بما يؤكد ديانتها وهويتها الوثنية الكنعانية، وربما كان هذا الربط متسرعاً ويحتاج إلى مزيد من التقصي والتمحيص. ويلفت زكريا نظر قارئه إلى أنَّ المؤرخين الغربيين كلهم شطبوا اسم هذا الإله من الوجود. لقد رفضوا تصديق وجود إله باسم إسرائيل، مفترضين أن وجوده خطأ من الناسخين لا غير، وأن الاسم يجب أن يكون في الأصل «ئيل/ الوثني» وليس «إسرائيل». مع أن الأحرى بهم كان أن يرفضوا اسم إسرائيل نفسه كاسم توحيدي عبراني وهو ليس كذلك! ويضيف الراحل: «إن الغالبية العظمى – من المؤرخين والباحثين الغربيين – تضع، تقتبس النص أعلاه، «ئيل» مكان «إسرائيل» من دون أن تشير إلى ذلك أبداً، أي من دون أن تخبر القارئ أن الاسم في نسخة يوسيبيوس هو «إسرائيل». وقد أذهلني هذا تماماً حين اكتشفته. وهكذا مُحي اسم هذا الإله الفينيقي. وقد محي لأن وجود إله باسم «إسرائيل» يثير اضطراباً، قد يؤدي إلى تغيير الصورة السائدة للديانة اليهودية جذرياً. فبناء على وجوده، يكون بنو إسرائيل عباد هذا الإله -الوثني- في الأصل». إن وثنية دولة إسرائيل الشمالية تعترف بها حتى التوراة فهي تصب لعناتها عليها وعلى ملوكها لهذا السبب بالذات ولأنهم عبدوا البعل – الإله الوثني المقابل لئيل – وهو ليس أمراً جديداً إنما الجديد في الاسم ومنشؤه الفينيقي.

وأخيراً فإن الأدلة المادية التي يوردها فرويند كدليل على قِدم الوجود اليهودي في جنوب لبنان وفي جنوب لبنان كقبر زفلون في صيدا وقبر أهليآب بن أخيساماخ في بلدة سُجد وقبر النبي التوراتي صفنيا في قرية جبل صافي، إنْ صحت يهوديتها، لا تعني إلا أمرين حاسمين ومهمين:

الأول، وقد اعترف به مؤرخون يهود منصفون وهو سماحة وإنسانية الحضارات العربية والمشرقية القديمة مع الأقليات الدينية وخاصة مع اليهود الذين عاشوا قروناً طويلة في بلاد الرافدين (حيث لا تزال قائمة أضرحة ومقامات أنبياء يهود منهم النبي القرآني ذو الكفل (حزقيال التوراتي) في بابل وعزرا في أقصى الجنوب العراقي) وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا واليمن وتركوا وراءهم عدداً من الآثار التراثية بعد أن اقتلعتهم الحركة الصهيونية العنصرية ودولتها من جذورهم بوسائل إرهابية استخبارية.

الأمر الثاني، الذي تؤكده هذه الأدلة وغيرها، هو أصالة الوجود اليهودي الحقيقي وقِدمه في العالم العربي ولكنه وجود وتراث لا علاقة لهما بالوجود الإشكنازي الخزري المتهود والذي جاءت الحركة الصهيونية بغالبيته من شتى بقاع العالم وحولته إلى جيش مسلح استيطاني، في كيان وصفه أرئيل شارون بأنه عبارة عن «حاملة طائرات أميركية ثابتة» كما اقتبس وزير استخباراته يوفال شتاينتس، قبل أن يتحول من حاملة طائرات ثابتة إلى عصابات دموية متحركة بزعامة التيار الصهيو-ديني لتمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي علناً ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني!

 

* كاتب عراقي

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١_الاخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

عالـم باليــهود….

  بقلم د. نبيل طعمة حاول الأنبياء والرسل والقادة، ومفكرو وفلاسفة العالم، أن يتخلصوا من اليهود، منهم من طردهم ومنهم من حاربهم ومنهم من حاول ...