راغب ملّي
في لحظة تبدو فيها المعرفة متاحة بكثافة لم يعرفها العقل البشري من قبل، يصبح سؤال “ما التعليم؟” أكثر إلحاحاً من “كيف نُعلّم؟”. هذه ليست مبالغة فلسفية، بل استجابة حقيقية لتحوّلات تُحدثها تقنيات الذكاء الاصطناعي في بنية التفكير والتعلّم والإنتاج. وإذا كانت المدرسة لقرون طويلة هي وعاء المعرفة ووسيطها، فإن الذكاء الاصطناعي، بكل ما يتيحه من أدوات تحليل وتوليد وتخصيص، يعيد توزيع الأدوار ويطالبنا بإعادة صوغ المعنى الجوهري للتعليم.
في هذا الإطار، وفي مقابلة مع “النهار”، تحدّث الدكتور وسام محمد إبراهيم، أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية – جامعة الإسكندرية، وخبير التدريب الدولي في تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي وتطبيقات الواقع المعزز، عن موقع الذكاء الاصطناعي في فلسفة التعليم المصرية، ودور المعلم، ومدى جهوز المؤسسات التعليمية، والمستقبل الذي ينتظرنا إذا أحسنّا الاستعداد له.
يرى الدكتور وسام أن الذكاء الاصطناعي لا يُهدد التعليم من حيث هو، لكنه يفضح هشاشة بعض ما كان يُعد من البديهيات. ففلسفة المناهج القائمة على الحفظ والاسترجاع تُصبح غير منطقية في عصر يمكن فيه لأي طالب أن يحصل على المعلومة في ثوانٍ. لكن الإشكال ليس في توافر المعلومة، بل في ما نفعل بها. الذكاء الاصطناعي، كما يقول، “لا يهدم ما بُني، وإنما يدفعنا الى مراجعة ما اعتدناها بصفتها قواعد ثابتة، من دون أن نجرؤ على سؤاله: لماذا نُعلّم هذا؟ ولمن؟ وكيف؟”.
من هذا المنطلق، لا يرى وسام في الذكاء الاصطناعي تهديداً للهوية التعليمية، بل يعتبره فرصة نادرة لتجديدها. الخطر الحقيقي في رأيه لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في رفض التعاطي معها أو الركون إلى ماضٍ لم يعد صالحاً للاحتذاء. إذا أُحسن استخدام الذكاء الاصطناعي أداة تربوية، يمكن – بل يجب – أن يخدم القيم والثقافة المحلية، بدلاً من أن يذيبها في عولمة بلا ملامح. وهذا لا يتحقق إلا إذا أعدنا النظر جذرياً في ما نُعلّمه وفي طرقنا إلى ذلك.
وحين سألناه عن المهارات الجوهرية التي ينبغي أن تشكّل قلب المناهج في هذا العصر، أشار إلى أن التفكير النقدي بات أولوية لا تقبل التأجيل. فالآلة تستطيع جمع البيانات وتحليلها، لكنها لا تحكم على صلاحيتها ولا على مدى أخلاقيتها. وهنا يظهر دور الإنسان، بصفته كائناً أخلاقياً قادراً على التفكر، لا مجرد معالج معلومات. كذلك، لم يعد من المقبول الحديث عن تعليم منفصل عن المهارات الرقمية، ليس من باب الاستخدام التقني فحسب، بل من حيث الفهم العميق لكيفية عمل النظم الذكية والتفاعل معها بوعي، وهو ما يُعرف اليوم بـ”هندسة التوجيه” أو Prompt Engineering.
ويؤكد الدكتور وسام أن التعلم المستمر لم يعد ترفاً بل ضرورة وجودية، لأن المعرفة أصبحت متقلبة، وما يكتسبه الطالب اليوم قد يفقد صلاحيته غداً. لذا، لا بد من تنمية عقلية قادرة على التكيّف، تبحث وتسأل وتراجع ذاتها باستمرار. ويضيف: “نحن لا نحتاج إلى طالب يحفظ فحسب، بل إلى إنسان شغوف بالتعلم، مستعدّ لإعادة ابتكار ذاته كلما استدعت الحاجة”.
وعن واقع المؤسسات التعليمية في مصر، يقول إن الجهوزية لا تزال متباينة. فهناك مؤسسات جامعية ومدارس خاصة بدأت تستثمر في إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي ضمن الممارسات التربوية، لكنها تظل استثناءً لا قاعدة. في المقابل، لا تزال نسبة كبيرة من المؤسسات تُدار بعقلية تقليدية لا تُدرك حجم التحول الذي يطرق أبواب التعليم اليوم. ما ينقصنا، كما يؤكد، ليس الإمكانات التقنية بالضرورة، بل الإرادة والرؤية الواضحة، والتدريب الحقيقي للمعلمين، وتحديث جاد للمحتوى التعليمي.
أما عن موقع المعلم في هذه المنظومة الجديدة، فيرفض الدكتور وسام مقولة أن الذكاء الاصطناعي سيُقصي المعلم. بل على العكس، يرى أن دوره أصبح أكثر حيوية، وإن كان مختلفاً جوهرياً. لم يعد المطلوب من المعلم أن يكون ناقلاً للمعلومة، فذلك صار من وظائف المنصات والروبوتات. بل صار دوره أن يكون مرشداً فكرياً، يُعلّم طلابه كيف يتعاملون مع المعلومة، كيف يفرزونها، كيف يتأملونها ويعيدون بناءها في سياقات جديدة. ويشبّه دوره بدور “المايسترو”، الذي لا يعزف وحده، بل يُنسّق أداء مجموعة متباينة من العازفين، داخل غرفة صفّية تعتمد على التفاعل لا الإملاء.
من هنا، تأتي أهمية التحول نحو نماذج تعليمية أكثر ديناميكية، مثل التعلم النشط، والتعلم الذاتي المنظم، والفصل المعكوس، وكلها مقاربات تستند إلى جعل الطالب شريكاً فاعلاً في عملية التعلم، لا مجرد متلقٍّ سلبي.
في نهاية هذا الحوار، يتّضح أن الذكاء الاصطناعي ليس محطة تقنية فحسب، بل لحظة تربوية فارقة تُجبرنا على إعادة اكتشاف ذواتنا التعليمية. هو ليس عدواً لهويتنا، لكنه قد يُصبح كذلك إذا اخترنا أن نتجاهله أو نواجهه بجمود فكري. أما إذا أحسنّا توظيفه، فسيكون أداة قوية لإعادة تشكيل تعليم يستجيب للعصر من دون أن يفرّط في روحه.
وختم حديثه الى “النهار” قائلاً:
“لسنا بحاجة إلى تعليم جديد بالاسم، بل إلى وعي جديد بالتعليم… وعلينا أن نبدأ الآن، لا حين يفوت الأوان”.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار