آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » بين الحكمة والألم: المثقف السوري وصناعة الوعي الجديد

بين الحكمة والألم: المثقف السوري وصناعة الوعي الجديد

 

د. سلمان ريا

حين كتب المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي عن المثقف العضوي، بدا كأنه يرسم ملامح ذلك الإنسان الذي ينهض من رائحة التراب لا من شرفات السلطة، ويغتسل بملح التجربة قبل أن يعود ليضع بين أيدي الناس مرآة لا تعكس وجوههم فحسب، بل ما هو أعمق من الوجع وأكثر اتساعاً من النهار. فالمثقف، في رؤيته، ليس ظلاً يراقب حركة العالَم، بل واحداً من أولئك الذين يغيّرون اتجاهه، بصمتٍ يشبه موسيقى الماء حين يشقّ طريقه بين الحجارة.

وفي سوريا اليوم، حيث تتطاير الذاكرة كقناديل انطفأت فجأة، وحيث المدن متعبة كمسافرين بلا محطّات، والقلوب تمشي على أطراف جراحها؛ يبدو هذا النوع من المثقف حاجةً يومية لا توصيفاً نظرياً. فالبلاد لا تحتاج إلى خطيب يرفع نبرة الصراخ، بل إلى من يجمع المعنى من أطراف الألم، ثم يخيطه بخيط وطنيّ لا يُقصي أحداً ولا يُخوّن أحداً.

ذلك المثقف يدرك أن الأوطان لا تُستعاد بالقبضة، بل بالبصيرة؛ وأن الشروخ لا تُرمَّم بالحماسة العابرة، بل بوعي قادر على رؤية كل جماعة كفقرةٍ من رواية كبرى، لا كخصمٍ في معركة هوية ضائعة. إنه المثقف الذي لا يقف فوق ركام النصّ السوري ليرثي، بل يدخل إلى قلبه ليبحث عن الجملة التي يمكن أن تُكتب من جديد.

هو الذي يلتقط ما تساقط من ثقة، وما تناثر من سرديات، ويعيد ترتيبها كما يُعاد ترميم بيت قديم بعد أن تجتاحه الريح. يعرف أن الدولة تولد حين يولد وعي قادر على جمع الحكايات المتناثرة في كتاب واحد، وأن السلم الأهلي ليس اتفاقاً سياسياً، بل ممارسة يومية في البيوت، في المدارس، وفي اللغة التي تستيقظ على ألسنة الناس.

وفي بلد أثقلته السنوات، يصبح المثقف الحقيقي هو الذي يردّ البلاد إلى نفسها، ويذكّر أبناءها بأن المستقبل لا يُكتب بالبنادق، بل بالكلمات التي تتسامح مع بعضها. وأن الخوف، إن تحوّل إلى وعي، يفتح طريقاً نحو مشروع؛ وأن المشروع، إن وجد لغته الصادقة، يمكن أن يصير وطناً قابلاً للتنفس.

وهكذا يغدو المثقف السوري—على طريقة غرامشي، ولكن برؤية تنبت من أرضه—ليس حاملاً لرواية واحدة، بل لإمكانية الروايات جميعاً؛ ليس صوت سلطةٍ أو معارضة، بل صوت البلاد حين تعود إلى ذاتها… ببطء، بثبات، وبشاعرية المكان حين يداوي ندوبه.
(موقع اخبار سوريا الوطن)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الفن يغيّر الإنسان”… رشا رزق والإيمان بالقوة الناعمة

  ياسمين الناطور   في كلّ مرّة أسمع فيها صوت الفنانة رشا رزق، تعود بي الذكريات إلى زمن الطفولة، ويستيقظ في داخلي ذلك الحنين الدافئ ...