آخر الأخبار
الرئيسية » إقتصاد و صناعة » بين القرار العملي باستيراد النفط الإيراني والقرار النظري باستجرار الطاقة

بين القرار العملي باستيراد النفط الإيراني والقرار النظري باستجرار الطاقة

كما هو متوقّع، استقبلت القيادة السورية طلب لبنان المساعدة على استجرار الطاقة من الأردن بكل رحابة صدر وإيجابية مع «ولكن» صغيرة وضمنية، فالقطيعة التي مارستها الحكومات اللبنانية المتعاقبة ضدّ سوريا منذ عام 2005 تتطلّب أن يتولّى لبنان الرسمي متابعة موضوع الطاقة ليس فقط من جانبه التقني، بل من الجانب السياسي أولاً، أي إعادة وصل ما انقطع في السياسة بين البلدين منذ خمسة عشر عاماً، كما يتطلّب تواصلاً سياسياً مع القيادة السورية من الجانب الذي قرر عملية استجرار الطاقة بهذه الطريقة إلى لبنان، أي الجانب الأميركي. وهنا إن كان يبدو أن لا مشكلة لدى الطرف اللبناني أن يعيد المياه إلى مجاريها مع سوريا بعد حثّ رسمي أميركي، أو على الأقل «قبة باط» أميركية أحرجت حلفاء بلاد العم سام في الداخل اللبناني وجعلتهم يبلعون ألسنتهم، فإنّ لدى الطرف الأميركي صعوبات كبيرة أولها في الداخل الأميركي نفسه حيث لا يزال الرئيس جو بايدن يتعرّض لموجة انتقادات حادة بسبب الطريقة المهينة التي انسحبت فيها قواته من أفغانستان، وثانياً هذه الصعوبات هي مواقف حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط حيال النظام في سوريا، وبالأخص الخليجيين منهم، بعد ضخهم مليارات الدولارات لدعم قوى ومنظمات معارضة على أمل إسقاط الرئيس بشار الأسد ونظامه، فكيف لهؤلاء الحلفاء أن يوافقوا على استئناف واشنطن أي شكل من العلاقة مع نظام الأسد وأن تقوم أميركا بطريقة أو بأخرى بإعادة تأهيل جزء كبير من شبكة الكهرباء في سوريا تحت ذريعة استجرار الطاقة إلى لبنان.

على أي حال فإنّ الموافقة السورية على هذا الموضوع ليست سوى الخطوة الأولى لرحلة الألف ميل الأميركية من أجل مساعدة لبنان في تجاوز أزمته الحالية في الطاقة والمحروقات. والخطوة الأساس في هذا الموضوع كانت قبل شهرين عندما غضت واشنطن الطرف عن القرار العراقي بتزويد لبنان بمليون طن من الفيول على أن يبدأ بدفع ثمن هذه الكمية في العام المقبل من دون أية فوائد.
على أية حال فإن القرار الأميركي بالعمل على استجرار الطاقة إلى لبنان عبر الأردن وسوريا بالغاز المصري يتطلب تنفيذه على أقل تقدير تسعة أشهر، من ضمنها إجراء مفاوضات مع مصر حول كمية وسعر الغاز، ومفاوضات مع الأردن الذي قد يحتاج أيضاً إلى إعادة تأهيل شبكة الكهرباء لتتحمل الطاقة الإضافية التي سترسَل إلى لبنان، ومفاوضات مع سوريا، وهي الأصعب، لأنها بحاجة إلى إعادة تأهيل الشبكات التي دمرتها عشر سنوات من الحرب، وفي هذا السياق كشف وزير الكهرباء السوري غسان الزامل أن كلفة إصلاح خط الكهرباء الذي يربط الأردن وسوريا وصولاً إلى لبنان تتجاوز الـ 12 مليار ليرة سورية (حوالى 3.5 مليون دولار) وأن تنفيذ أعمال التأهيل والصيانة تحتاج إلى ما بين شهرين إلى أربعة أشهر من لحظة بدء العمل الفعلي لأعمال إعادة التأهيل، وأن الأضرار التي لحقت بالخط شملت تدمير نحو 80 برجاً تقارب كلفتها السبعة مليارات ليرة سورية (2.02 مليون دولار). إلى جانب ذلك هناك الشروط السياسية التي قد تطلبها القيادة السورية من واشنطن وحلفائها ومن لبنان أيضا وأقل هذه الشروط هي تطبيع العلاقات وعودتها إلى طبيعتها إن كان بين لبنان وسوريا أو بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وفوق ذلك كله هناك المفاوضات التي ينبغي لصندق النقد الدولي أن يجريها مع كل هذه الأطراف بشأن طريقة تمويله للمشروع (هبات، قروض ميسرة، أو قروض طويلة أو قصيرة الأجل).


لذلك فإن القرار الأميركي باستجرار الطاقة إلى لبنان عبر الأردن وسوريا هو أقرب ما يكون إلى رد الفعل الانفعالي على خطاب السيد نصر الله لأنه جاء بعد ساعات قليلة من هذا الخطاب، وفي القرار أيضاً استخفاف كبير بعقول الناس، ناهيك أنه يشكل انتهاكاً صارخاً لسيادة أربع دول (مصر والأردن وسوريا ولبنان)، وإن كان «السياديّون» في لبنان يعيبون على حزب الله وهو حزب لبناني أنه انتهك سيادة الدولة فإنهم أحرجوا أيضاً بالرد الأميركي. فكيف لإدارة واشنطن أن تقرر فجأة استجرار الطاقة بهذه الطريقة قبل التشاور مع الدول المعنية؟ وكيف لها أن تحسم أن البنك الدولي سيموّل هذه العملية وكيف سيموّلها، إن كان على شكل هبات، وفي الحالتين لا بدّ من إجراء مفاوضات مع الدولة اللبنانية. هذا إذا لم نقل إن القرار الأميركي يشكّل انتهاكاً فاضحاً لـ «قانون قيصر» الذي أقرّه الكونغرس الأميركي في العام الماضي والذي يحظر أية تعاملات اقتصادية مع النظام في سوريا… فكيف ستتم عملية إصلاح شبكات الكهرباء السورية التي سيتم عبرها استجرار الطاقة إلى لبنان من دون تنسيق مع الحكومة السورية، إن كان من قبل الأميركيين أو من قِبل الحكومة اللبنانية بغضّ نظر أميركي عن الموضوع.
إذاً فإن القرار الأميركي باستجرار الطاقة إلى لبنان بهذه الطريقة هو عملية بالغة التعقيد سياسياً واقتصادياً ومالياً ولا يمكنها بأيّ شكل من الأشكال أن تنافس الخطوة الإيرانية السريعة والمفاجأة التي أعلنها أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله في خطبته في العاشر من محرم، إذ قال إن الحزب وبدعم من إيران قرّر كسر الحصار الأميركي على لبنان واستيراد النفط بشكل تجاري من إيران. وأضاف أن الباخرة الأولى قد انطلقت بالفعل محذّراً كلّاً من أميركا وإسرائيل من القيام بأيّ عمل عدواني ضدها لأنها منذ لحظة انطلاقها باتت وفق حسابات حزب الله أرضاً لبنانية، أي أن السيد نصر الله أدخل الباخرة الإيرانية المحمّلة بالنفط إلى لبنان ضمن قواعد الاشتباك التي يفرضها على إسرائيل في جنوب لبنان، وقد جاء إعلان نصر الله في لحظة قاتلة لإدارة الرئيس جو بايدن، إذ أنها أتت غداة الهزيمة المدوية لجيشه في أفغانستان بعد حرب دامت عشرين عاماً، وهي أطول حروب الإمبراطورية الحديثة، وانتهت بانسحاب مهين لأعتى قوة عسكرية في العالم. وبالتالي فإنّ بايدن سيجد نفسه مكبّل اليدين في التعاطي مع الباخرة الإيرانية المتّجهة إلى لبنان. وعلى أيّ حال فقد سدّد نصر الله هدفاً نظيفاً في المرمى الأميركي، وذلك لأنه إذا ما اعترضت أميركا أو حليفتها إسرائيل الباخرة فإن ذلك سيؤكد مقولة حزب الله أن أميركا تفرض حصاراً على كل لبنان، وإن لم يحصل اعتراض السفينة سيكون حزب الله منفذاً للبنان في أزمة المحروقات. أما الهدف النظيف الثاني الذي حققه نصر الله بهذه الخطوة هو أنه نجح من خلالها بكسر الحصار على كل من إيران وسوريا ولبنان بضربة واحدة.
هذا على المستوى الإقليمي أما على مستوى الداخل اللبناني، لا بدّ أن العقل السياسي، في كل من حزب الله وحليفته إيران، الذي درس بتمعّن على مدى الأشهر القليلة المنصرمة كلّ أبعاد خطوة استيراد المحروقات إلى لبنان مع كلّ تفاصيلها اختار الوقت المناسب لتنفيذ الأمر، ولا شكّ أيضاً أن هذا العقل يعي جيداً أن هذه الخطوة تشكل في الداخل اللبناني ضربة قاسية لمنظومة الاحتكار النفطي التاريخية في البلاد وخلافاً لكلّ القوانين الناظمة لاحتكارها بحماية من السلطات المتعاقبة وبرعاية الحلفاء الإقليميين والدوليين لهذه المنظومة من الشرق والغرب على حدّ سواء، وبالتالي لا بدّ أن يكون هذا العقل قد أعدّ خطة تفصيلية لعملية توزيع المحروقات بطريقة تحول دون احتكار هذه المادة من أي طرف، وضمن أنها ستصل إلى المستهلك وليس إلى التجار الفجار والمهربين والمحتكرين، لأن ذلك يمثل فشلاً ذريعاً لكل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه العملية، ومن شأن نجاحها أن يطاول سلعاً حيوية أخرى ليس أقلها الدواء الذي يخضع بدوره لمنظومة احتكارية شبيهة بمنظومة النفط أيضاً. وتجنّباً للأحكام المسبقة على هذا الأمر لا بد من الانتظار لرؤية كيفية عملية التوزيع.


ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن المحروقات التي ستصل من إيران لن توزع في لبنان مجاناً لأحد، بل سيتم بيعها بأسعار مدروسة، وبالإشارة إلى الأسعار لا بد أيضاً من الذكر أن المحروقات في إيران تُباع للمستهلك بأسعار مدعومة من الدولة، ويبلغ مثلاً سعر صفيحة البنزين في السوق المحلي في إيران ما يوازي 2.3 دولار، فيما تتولى الدولة تغطية فارق السعر العالمي من ماليتها وهي لا تتجاوز العشرة دولارات. وإذا كانت السوق اللبنانية تحتاج إلى فاتورة محروقات تساوي ثلاثة مليارات دولار سنوياً، فإن إيران، وعلى الرغم من كل أزمتها الاقتصادية الناجمة عن الحصار الأميركي لها تستطيع أن تتحمل دعماً محدوداً للمحروقات المرسلة إلى لبنان لا تتجاوز الدولارين على الصفيحة لأن حجم الاستهلاك اللبناني لا يساوي أكثر من ثلث حجم الاستهلاك لمدينة طهران وحدها، ويبلغ عدد سكانها حوالى 15 مليون نسمة. لذلك فإنّ من يراهن على عجز طهران عن دعم محروقاتها في لبنان يكون مخطئاً في الحساب.
لا شك في أن خطوة حزب الله أحرجت الأطراف والقوى التي تعتبر نفسها «سيادية» في لبنان، فهي وعلى مدى عمر تفجر الأزمة الممتد إلى قرابة السنتين لم تقدم حلولاً، بل تراوحت مواقفها بين المتفرج على تعمق الأزمة وانتظار «جثة الخصم على ضفة النهر»، وتلك التي واصلت عملها على تعميق الأزمة عبر سرقة الدعم الرسمي للمحروقات ولغيرها من السلع الحيوية واحتكار هذه السلع لبيعها في السوق السوداء بأسعار خيالية أو تهريبها إلى سوريا.


استنتاجاً، إن الإسراع بوصول المحروقات الإيرانية إلى لبنان، وتوزيعها بشكل سليم كي تصل إلى المستهلك من شأنه أن يشكل صفعة قوية لسياسة الحصار الأميركي على لبنان، أشدّ من تلك التي تسبّب بها إعلان القرار على لسان السيد نصر الله، وليس أمام الإدارة الأميركية وحلفائها من إمكان لرد الصفعة، إلا إذا أعادت إحياء منظومة الفساد الحليفة لها في الداخل اللبناني، عبر مدّها بسبل الحياة وبشريان نفطي ما، هي تعرف جيداً أنه لن يصل إلى المواطن اللبناني منه إلّا النذر القليل، فيما جلّه سيذهب بأرباح خيالية للحسابات المصرفية في الخارج، لمصلحة المنظومة بكل تكويناتها الطائفية والسياسية.

(سيرياهوم نيوز-الاخبار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها

يقيم مصرف سورية المركزي بالتعاون مع وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها بعنوان: “نحو إطار تمويلي ...