| الدكتور مازن جبور
بعد تجربة 60 عاماً في السلطة لحزب البعث العربي الاشتراكي، يُطرح سؤال الدور والمكانة نفسه بقوة على البعثيين عموماً وعلى قيادات البعث المتعاقبة خصوصاً، كيف كانت صورة البعث والبعثي في المخيلة الاجتماعية السورية والعربية، وما التحولات التي طرأت عليها؟ أسئلة كثيرة تدور في أذهان الجميع تتطلب إجابات عاجلة لتدبير ما يمكن تدبيره وإصلاح ما خربته الحرب.
وضِع حزب البعث العربي الاشتراكي وكوادره على المحك مع اندلاع الحرب على سورية في العام 2011، بعد ما يقرب من خمسين عاماً كان فيها البعث قائداً للدولة والمجتمع في الجمهورية العربية السورية، مع تعداد تجاوز ثلاثة ملايين عضو، سرعان ما انفضّ جزء كبير منهم، تجاوز النصف، من حوله مع اندلاع الأزمة السورية، وسلك العديد منهم أقصى درجات التطرف يميناً ويساراً، بما يوحي بانهيار الإيديولوجية أو تناسيها في العمل البعثي، والتحول إلى قنوات عمل أخرى، أصبح فيها البعث أداة بيد الأجهزة الحكومية بمختلف قطاعاتها ومجالات عملها، لا موجهاً لها ومصححاً لهفواتها ومدافعاً عن قاعدته الشعبية في وجه تجاوزاتها، تحت يافطة أن تلك السلطات التنفيذية منبثقة عنه، وخصوصاً أن ما نسبته 85 بالمئة وفق التقديرات، من كل الإدارات المحلية وأعضاء مجلس الشعب وممن يتولى المناصب الإدارية، بما فيها الحكومة الحالية، هم نتاج البعث، باعتباره الفائز في الانتخابات وصاحب السلطة بموجب ذلك.
تطرح الأزمة السابقة مشكلة جوهرية في عمل البعث، على صعيد شقه المتعلق بالتنظيم والإعداد والثقافة والإعلام، وتطرح تساؤلاً رئيساً، هل ركز البعث على الكم وتغافل عن الكيف؟ وليس المقصود هنا أن يكون حزباً نخبوياً، لكن من المهام الأساسية لأي حزب إعداد كوادره وتثقيفهم بما يقوي رابطة الانتماء لديهم بالحزب والوطن والقضية، هذا على مستوى الحزب، فكيف الأمر إذا كان هذا الحزب قائداً للدولة والمجتمع، وفي ظل حصول البعث على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية وانتخابات الإدارات المحلية والنقابات والاتحادات، ووجود أعضائه في جميع إدارات الدولة العليا، وهنا يصبح سؤال البعث عن الفساد مشروعاً، ومطالبته بمشروع واضح لمحاربة الفساد، مطلباً محقاً.
بدأت تتكشف منذ بدء الحرب على سورية في العام 2011، صور تخيلية، راسخة في المخيلة الاجتماعية السورية عن حزب البعث العربي الاشتراكي، ودوره الرائد تاريخياً إلى جانب العمال والفلاحين، إلى جانب الجماهير الشعبية مسلوبة الحقوق، والتي استعاد لها حقوقها في ثورة الثامن من آذار، استعاد لها تلك الحقوق من تنظيمات إقطاعية وبرجوازية استغلت العمال والفلاحين الذين يشكلون أغلبية الشعب السوري، ومنذ ذلك الحين وتلك التنظيمات تنتظر أن يزول حكم البعث لتعود إلى دائرة الاستغلال الخاصة بها، وهنا سأورد حادثة تلخص الكثير عن البعث ودوره التاريخي في حياة السوريين، علماً أن الحادثة تناقلتها وسائل إعلامية معارضة، محاولة الاستثمار فيها، لتشويه صورة حزب البعث الحقيقية.
تقول الحادثة: إنه في وقفة عيد الأضحى المبارك تم قتل فلاح في الرقة، بسبب زراعته أرضاً كان منتفعاً بها، والخلاف هنا ليس بين جارين على حدود بينهما بل على مساحات الحياة لكل منهما، فالقاتل من قبيلة الولدة والقتيل من عشيرة مجاورة ترجع إلى قبيلة عدوان، ورغم قسوة الحدث وتوقيته، خرجت تصريحات من ذوي القاتل من عشيرة الناصر التي تنحصر فيها مشيخة قبيلة الولدة، بأن الحادث رد طبيعي على من يستثمر أرضاً ليست له باعتبار أن حزب البعث «سقط» وقوانينه يجب أن تزال، ولا يصح لأحد أن يستثمر أرضاً من دون موافقة المالك الأول قبل نظام البعث.
لقد مر خبر الحدث في أوساط لا تخضع لسيطرة الدولة السورية وأغلبها من أتباع ما سمي بـ«الثورة السورية» من المقيمين خارج البلاد في تركيا أو أوروبا أو الخليج، ولم يتضامن أحد منهم مع الضحية، أو لم يقولوا كلمة واحدة لدرء الفتنة، بل كان موقف أبناء قبيلة الولدة من الناصر قاطبة، واحداً، وهو التأكيد على أحقية الولدة بالأراضي التي استملكتها منذ القرن الثامن عشر بصكوك الاحتلال العثماني.
تشير القناة الإعلامية المعارضة إلى أن قبيلة الولدة في الرقة قد أسهمت فيما يسمى «الثورة السورية» وشكلت «أكثر من ثلثي حراك الرقة الثوري في كل مجالاته»، وقبيلة الولدة من القبائل القوية الموجودة تاريخياً في المنطقة منذ عهد الاحتلال العثماني وتنحصر مشيختها في عشيرة الناصر، وخُصص لمشيختها تاريخياً ما سمي بـ«الصرة الحميدية» التي كانت تأتي من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، واقتطع لها الاحتلال العثماني أراضي تعادل نصف الرقة ريفاً ومدينة.
في الطرف الآخر تنتمي الضحية لعشيرة ليست ذات وزن في محيطها وترجع لقبيلة عدوان ذات الامتدادات في محافظات أخرى، إذ يمثل القتيل جماعات بشرية كثيرة من الفلاحين، الذين استفادوا بقرار الإصلاح الزراعي، وتوزيع أراضي الإقطاع على الفلاحين لاستثمارها بقرارات حكومية منذ الستينيات، ودخل الفلاحون ضمن العملية الزراعية بناء على استملاكهم أو انتفاعهم بأراض وزعت لهم بقانون الإصلاح الزراعي، ووجدوا بموجبه أرضية للحياة والعيش والتعلم.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن قبيلة الولدة نادت بـ«إسقاط البعث» ونتائجه وكل قراراته على صعيد الدولة بما فيها المتعلقة بشأن الإصلاح الزراعي، ولتحقيق هدفها أيدت ما يسمى «الثورة»، بغية استعادة أمجادها الإقطاعية على حساب الفلاحين من أبناء الرقة الذين أنصفهم البعث ومكنهم في أرضهم ومحافظتهم وبلدهم، في حين بقي الفلاحون في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية، ضعفاء غير قادرين على الدفاع عن مكتسباتهم التي أنصفهم حزب البعث العربي الاشتراكي بها وحققها لهم، بانتظار عودة سيطرة الدولة وأخذ حكم قانوني لاستعادة أراضيهم التي فقدوها في ظل تراجع سيطرة الدولة عن بعض المناطق.
اليوم وبعد اثنتي عشرة سنة على اندلاع الأحداث في سورية، يتكرر المشهد ذاته جنوب البلاد وبشكل رئيس في محافظة السويداء، إذ إنه من اللافت أن الهجوم تركز بشكل رئيس على حزب البعث العربي الاشتراكي، من خلال الشعارات التي يرفعها المتظاهرون، ومن خلال إغلاقهم لمقرات الحزب في المحافظة، علماً أن مؤسس الحزب والمُنظّر الأبرز له، ميشيل عفلق، هو ابن محافظة السويداء.
في الوقت الذي يرفع فيه المتظاهرون شعارات منددة بسلوكيات فرع حزب البعث وشعبه الحزبية والفرق التابعة لها، وبالحال التي وصل إليها، والتي باتت تشكل صورة تخيلية نمطية عن الحزب لدى أغلبية المجتمع السوري، من قبيل أن ممثليات الحزب في القرى والبلدات والمحافظات لا تمون على أحد من الجهات الإدارية، وغير قادرة على تحقيق أي مطلب شعبي فيما يخص الخدمات، وأن الموجودين فيها هم من المنتفعين، هذه الصورة النمطية التي يروج لها الآن بغية غرسها في المخيلة الاجتماعية السورية، لتشويه صورة الحزب، فإن مجرد إشاعتها يستوجب الرد عليها، وخصوصاً أنها تستهدف تنظيماً سياسياً اجتماعياً كان له الفضل في بناء سورية الحديثة وتحريرها من الإقطاع والبرجوازية نصرة للعامل والفلاح ومختلف فئات الشعب المهمشة.
إن ما يجري في السويداء، قد يندرج في السياق ذاته لتحقيق الأهداف ذاتها التي سعت قبيلة الولدة لتحقيقها من خلال انخراطها فيما يسمى «الثورة السورية»، إذ إنه ورغم أحقية المطالب المعيشية التي تطلق في السويداء، إلا أنها مطلب حق يراد به باطل، على ما يبدو، ويهدف إلى إحداث التباس في الوعي السياسي للمجتمع السوري، بغية جر المجتمع إلى مربع الفوضى مجدداً، بدفعه لتبني خيارات خاطئة ستعيد سورية والمنطقة إلى المربع الأول الذي تلا زوال الاحتلال العثماني.
إن الرهانات الخاطئة التي تراهن عليها الفئة التي خرجت إلى الشارع في السويداء، محاولة جر الآخرين إلى طريقها، يقع واجب إيقافها على الجميع، لأن الكوارث التي قد تنجم عنها فيما لو استمرت ستطول الجميع، ومن ثم فإن الجميع معنيون باجتراح الحلول وتصحيح الخطأ، وفي مقدمهم حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يبدو أنه أبرز المُهَاجمين في أحداث السويداء، واستعادة دوره ومكانته مسؤولية البعثيين جميعاً، وإلا فإن إعادة إنتاج الأزمة السورية مستمر، طالما أنه ما زال متاحاً أمام المتربصين بالوطن استخدام الأدوات ذاتها.
في هذا السياق، تمثل عملية إعادة تأهيل بعض الشرائح المجتمعية، مهمة أساسية تقع اليوم على عاتق البعث والبعثيين أكثر من أي وقت مضى، على اعتبارها من تبعات الحرب، ومن ثم فإنه على البعث أن يقوم بدراسة عميقة للمجتمع السوري وللتحولات التي طرأت عليه، بغية تحقيق التوازي بين الخطاب والممارسة، الأمر الذي سيمكنه من الوصول إلى شرائح المجتمع كافة، ومنعها من أن تكون ثغرة لاستهداف سورية، وهنا تمثل المجالس المحلية والفرق الحزبية المؤهلة جيداً، الحلقة الأهم لتمكين حزب البعث العربي الاشتراكي من إعادة رسم صورته الحقيقية في المخيلة الاجتماعية السورية.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن