- وليد شرارة
- الأربعاء 12 آب 2020
بحسب جميع هؤلاء، ليس هناك أيّ اعتبارات استراتيجية مقنعة لمثل هذه الخطوة، وإن سببها الوحيد الظاهر إلى الآن هو كراهية ترامب للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورغبته في الانتقام منها. لكن الملابسات المحيطة بعملية تنفيذ القرار تكشف كيفية سعي أطراف وازنين في الدولة العميقة الأميركية، وتحديداً في الجيش والمؤسسات السياسية، لعرقلة هذا التنفيذ، وتأخيره إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، أملاً في الحؤول دونه. ويرى هؤلاء الأطراف أن إضعاف العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة وألمانيا، القطب-القاطرة في الاتحاد الأوروبي، بفعل مزاجية ترامب، هو بمثابة التهديد لوحدة «الناتو» ولثوابت الاستراتيجية العامة لبلادهم.
كراهية ترامب للمستشارة عميقة وهي تأجّجت بعد موافقتها على مشروع «السيل الشمالي 2»
في معرض شرحها لخلفيات موقف دونالد ترامب الأخير، ذكرت عدة صحف أميركية وغربية، وبينها «نيويورك تايمز» و»لوموند» الفرنسية، أن دافعه المباشر، والذي أثار غضباً عارماً لدى الرئيس الأميركي، كان رفض المستشارة الألمانية دعوته إلى حضور قمة مجموعة الدول السبع في كامب دايفيد، التزاماً منها بالضوابط المفروضة على السفر بعد جائحة «كورونا». والحقيقة هي أن كراهية ترامب للمستشارة عميقة، وهي تأججت بعد موافقتها على مشروع «السيل الشمالي 2» لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى بلادها ودول أوروبية أخرى، ونتيجة لانتقاداتها المتكررة لسياساته الخارجية، وهو أمر لا يحتمله على الاطلاق. البعد الانتقامي في قراره بسحب قسم من قواته من ألمانيا واضح، ويهدف أولاً إلى إخافة الألمان وإشعارهم بالانكشاف الاستراتيجي في مقابل روسيا. فهو أمر بنقل مقر القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا من مدينة شتوتغارت إلى بلجيكا، وكذلك برحيل أسراب الطائرات الأميركية وطواقم الطيارين والفنيين عن القاعدة الجوية في منطقة إيفيل في ألمانيا، والتي اعتمد اقتصادها المحلي في العقود الماضية على وجودهم. وكان فريد كابلان، المتخصص في الشؤون العسكرية على موقع «سلايت»، قد أكد في مقال أخير أن «سحب جزء مهم من جنودنا من ألمانيا سيعتبر من قبل الأعداء والأصدقاء تراجعاً عن التزامنا بالدفاع عنها وعن أوروبا. وإذا أضفنا إلى ذلك خطاب ترامب العدائي حيال حلفائنا، ورؤيته الميركانتيلية الفجة للتحالفات بشكل عام وعلاقاته الودية الحارة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يعمل على دق إسفين بين أميركا وأوروبا، وهذا الأمر أهم أهدافه الاستراتيجية، فإن بإمكاننا القول إن الرئيس الأميركي يساعده عن وعي أو من دون وعي على ذلك».
يعكس هذا التحليل اقتناع قطاعات وازنة من الدولة العميقة التي بدأت بالتحرك لعرقلة وتأخير قرار ترامب. فقد بدأ نواب ديمقراطيون وجمهوريون في الكونغرس بالتحرك للتصدي للقرار، وبينهم عضو مجلس الشيوخ والمرشح الجمهوري السابق للرئاسة ميت رومني الذي وصف قرار ترامب بأنه بمثابة «صفعة لصديق وفيّ وحليف، يفترض أن نعزز علاقاتنا به لردع الروس والصينيين». وبالتزامن مع هذا التحرك، تحاول قيادات في البنتاغون عرقلة عملية الانسحاب قدر المستطاع، لكي لا يغادر ألمانيا خلال الخريف القادم سوى عدد محدود من الجنود. ينسب كابلان، في مقاله المذكور سالفاً، إلى مسؤول عسكري يشرف على عملية الانسحاب قوله إن تنفيذ هذا الأخير يتطلب سنوات لاعتبارات لوجستية أساساً: «نقل منظومات سلاح ثقيلة يستغرق وقتاً طويلاً، وكذلك إيجاد مساكن جديدة لعائلات العسكريين». لكن كابلان يستطرد بأن القادة العسكريين قادرون على تسريع عملية الانسحاب لو أرادوا ذلك. هم يراهنون، كما المسؤولون الأوروبيون في معظمهم، على هزيمة ترامب في الانتخابات والتراجع تالياً عن هذا القرار، وقرارات كثيرة أخرى اتخذها، وأدت إلى زعزعة أسس التحالف العابر للأطلسي. ولا ريب في أن مثل هذه السياسات هو الذي يشي بسر الودّ الذي يكنّه الرئيس الروسي لنظيره الأميركي.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)