فراس عزيز ديب
بين الفيتو الأميركي المتوقَّع في مجلسِ الأمن والذي أطلق يد الكيان الصهيوني لاستمرارِ حرب الإبادةِ الجماعية في قطاعِ غزة، ليثبتَ عندَ من لا يزال في قلبهم شك بأن الحرب هي مع الولايات المتحدة وليست مع الكيان الصهيوني لأنه مجرد أداة، والصمت العربي والدولي الذي شكَّلَ بالنسبةِ للكيان الصهيوني دافعاً إضافياً لاستمرارِ الحرب، يمر الحدث الفلسطيني في غزة وكأنهُ باتَ روتيناً اعتياداً غيرَ قادرٍ على تحريكِ إنسانية العالم المتحضر لدرجةٍ باتَ معها قتل الأطفال بدمٍ بارد وتصوير التمثيل بجثثهم دفاعاً عن النفس!
أما في السياسة فإن وجهة النظر من هذهِ الحرب باتت تأخذ مناحي جديدة تحديداً في الإطار الذي استقرأناه هنا مسبقاً في أكثر من زاوية والذي يمكننا تلخيصهُ بعبارة: ما هو أبعدَ من مجردِ تصفية المقاومة الفلسطينية.
ترى الكثير من الأوساط السياسية الفرنسية «بأن إسرائيل عملياً أنهت ملف غزة بالحدِّ الأعلى للطريقة التي تراها مناسبة، وما استمرار المعارك حالياً إلا لمراكمةِ «الإنجازات» التي لا تتوقف عند حدِّ اكتشاف الكثير من الأنفاق وتحجيم الكثير من نقاطِ القوة التي تمتلكها المقاومة»، هذا كلّه ما كان ليتم لولا سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها جيش الاحتلال بغطاءٍ دولي والتي لربما لم تكن في حساباتِ المقاومة عشيةَ السابع من تشرين الأول، وبمعزلٍ عن العاطفة التي تلفنا عندَ قراءةِ وجهة النظر هذهِ، لكن هناك الكثير من الأحداث التي لابد من النظرِ إليها بالكثير من الواقعية، فرئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال قبلَ أمس خلالَ استقبالهِ لعائلات الأسرى المحتجزين في قطاع غزة «إن الحرب ستستمر حتى إنجاز المهمة، لأنها الفرصة الأكثر ملاءمة للكيان لتحقيقِ أهدافٍ طالَ انتظارها»، وبمعنى آخر فإن التفكير اليوم لم يعد بمستقبل قطاع غزة ولا حتى الضفة، التفكير اليوم باتَ بمستقبل إسرائيل فكيف ذلك؟
قبلَ أمس أعلن جيش الاحتلال القيام بسحبِ وحدات لواء غولاني من المعارك في غزة، هذا الخبر لا يجوز له أن يمر مرورَ الكرام تحديداً عندما نتحدث عن أحد أقوى وأقدم القطعات العسكرية الإسرائيلية والذي تعود ذكرى تأسيسهِ إلى ذكرى النكبة 1948 عندما هاجمَ متطرفو هذا اللواء المدنيين الفلسطينيين وقتلوهم بدمٍ بارد واحتلوا قراهم برفقة عصابات الهاغانا، على هذا الأساس نبدو فعلياً أمام احتمالين أساسيين لقرارِ سحب هذا اللواء من المعارك:
أولاً، قد تبدو هذهِ العملية فعلياً للحفاظِ على ماءِ وجه هذا اللواء وسمعتهِ التي داسَتها أحذية المقاومين نتيجة الخسائر المتلاحقة التي ضربتهُ في العدة والعتاد، خسائرَ أجبرت الكيان الصهيوني ذاتَ نفسهِ على الاعتراف بها بما في ذلك الكثير من التقارير الصحفية الإسرائيلية التي تتحدث عن هروبِ عددٍ كبير من مقاتلي اللواء من جبهةِ غزة بعد أن كانوا رأسَ حربةٍ في الهجوم البري، ما يعني ضرورةَ سحبهِ نهائياً أو اللجوء إلى فكرةِ إعادة تنظيمه وترميمه تمهيداً لمرحلةٍ جديدة من المعركة.
ثانياً، وهي وجهة نظر تدعم الفكرة الأولى ولا تلغيها أي إن اللواء فعلياً تعرضَ لخسائرَ غير مسبوقة، لكن ما لا يجب إسقاطه عندَ التعاطي مع هذهِ الخسائر أن إسرائيل تخوض حربها الأهم في العقودِ الأخيرة، بل إنها المرة الأولى التي يُعلن فيها رئيس وزراء إسرائيلي حالة الحرب منذُ السادس من تشرين الأول عام 1973 وما يتضمنه هذا الإعلان من تعبئةٍ عامة وتسخيرَ إمكانيات الدولة لمصلحة الجيش حسبَ دستور دولة الاحتلال، أي إن الخسائر هي جزء من هذهِ الحرب وأيضاً من المعتقد اليهودي المدافع عن «شعب اللـه المختار»، ولو كانت الفكرة من سحب هذا اللواء هي الخسائر فقط، فماذا عن باقي الوحدات، لماذا لا يتم سحبها؟ مع أنها تعرضت لخسائر لا تقل عن خسائر لواء غولاني كما أن قوات الاحتلال تسيطر بشكلٍ مباشر على الكثير من الأحياء الرئيسية لدرجةٍ قطَّعت فيها أوصال القطاع وهجَّرت السكان الأبرياء حتى من مراكز الاستشفاء، أي إن أغلبية ما يسقي تعطش الكيان للدماءِ والخراب والتهجير في غزة قد تحققَ، مع دعمٍ إعلامي أسقطَ الفصائِل المقاوِمة من أي مستقبلٍ سياسي قادم، هذه المقاربة قد تقودنا للتعاطي بواقعيةٍ أكثر مع فكرةِ سحب لواء غولاني من المعارك، هذه الفكرة تستند إلى سؤال واحد: هل حانَ الوقت لجبهةٍ جديدة؟!
منذ وصول اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل نهايةَ العام الماضي إلى برِّ الأمان وما تضمنهُ من سجالٍ حول اعتراف جميع الأطراف السياسية اللبنانية الموافِقَة على الاتفاق بدولةِ إسرائيل لكون الاتفاق أساساً بين دولتين وتم توثيقه في الأمم المتحدة، كان هناكَ حديث جدي عن كيفية الاستفادة من هذا الاتفاق في تحديدِ مستقبلِ العلاقة بين لبنان وإسرائيل وبالتحديد مستقبل المقاومة اللبنانية، بعض الأطراف اللبنانية أخبرَت يومها الوسيط الفرنسي بأن هذا الاعتراف بالحدود الدولية بين الدولتين يرفع عن كاهل لبنان أي قرار مواجهةٍ لا تتخذه الدولة اللبنانية بشكلها الرسمي مستقبلاً، بعضها الآخر كانَ أكثر واقعية عندما رأى أن الوصول لهذا الاتفاق جعل الكرة بملعبِ إسرائيل، بمعنى آخر: لماذا لا تُعيد القرى السبع المحتلة التي يُطالب بها حزب اللـه إلى السيادة اللبنانية كشرطٍ لتوقيعِ اتفاق سلام وبالتالي إنهاء المشكلة من أساسها لأن ذرائعَ وجود السلاح ستنتهي؟ بقي الأمر على هذهِ الصورة تحديداً لجهةِ خوف الجهات الفاعلة في التنقيب على النفط من عواقب انهيار الاتفاق مع أي مواجهةٍ قادمة، لكن الجانب الإسرائيلي كان يتعاطى مع الموقف بالكثير من البرود لأنه كان يعتبر أن انهيار الاتفاق لن يكون إلا بالمواجهة المباشرة بين لبنان وإسرائيل وهو ما لا يمكن لهُ أن يتحقق عندما تندلع الجبهة الشمالية مع المقاومة اللبنانية بسبب ما يعانيهِ لبنان أساساً من انقسامٍ سياسي يمنع حتى انتخاب رئيس للجمهورية فما بالك بقرار الحرب والسلم! هنا سيُترك حزب اللـه يواجه جيش الاحتلال، ومع اقتراب الحرب على غزة من إنهاء شهرها الثالث بدأت الكثير من الاجتهادات تدخل على هذهِ الفكرة: ماذا لو كررنا سيناريو غزة في جنوب لبنان؟
مما لا شك فيهِ بأن هذهِ الفكرة لم تعد مجردَ سؤالٍ عابر، بل يمكننا القول إن السعي الفرنسي لضمانِ وجود منطقة عازلة خالية من السلاح حتى نهر الليطاني من جهة فلسطين المحتلة وفق القرار 1701 هي آخر المساعي الدبلوماسية لدرءِ المعركة، وهي بالمناسبة تبدو خطواتٍ معكوسة لما كان يتم سابقاً بعدَ اندلاعِ المواجهة، المقاومة اللبنانية تبدو وكأنها تتجنب التصريح عن هذهِ الرسائل أو التهديدات وهي في خضمِّ المعركة بعدَ اشتعال النيران من جديد على الجبهات في جنوب لبنان، بل يمكننا أن نجزم بأن كل ما يقال في وسائل الإعلام نقلاً عما يسمونه «مصدر في حزب الله» غير مؤكد لسببٍ بسيط أن الحزب اعتاد قولَ ما يريد بشكلٍ مباشر وصريح بعيداً عن الوسطاء، أما الإسرائيلي فلم يعد يرى بهذا الطرح ما يجذبهُ لأن إبعاد المقاومة اللبنانية إلى شمال الليطاني لا يعني بأي حالٍ من الأحوال انتهاء الخطر الوجودي على الكيان، بل إن وزير خارجيتهم إيلي كوهين تحدث صراحةً عن عدم وجود ضمانات تمنع اندلاع الحرب في جنوب لبنان حتى بعدَ انسحاب المقاومة اللبنانية إلى شمال الليطاني، هناك من سيقول لكن للبنان خصوصيته، هل إن الكيان فعلياً قادر على ذلك؟
فكرة أن للبنان خصوصيته اخترعها بعض الساسة اللبنانيين ليهربوا من استحقاقات سيادية أهمها تحرير الأراضي المحتلة، ربما إن الخصوصية الوحيدة التي يتمتع بها لبنان والتي تمنع الكيان من مهاجمتهِ أن نسبة أصحاب القرار الذين لا يرون بالكيان عدواً، قادرة بلحظاتٍ ما أن تفرضَ اتفاقاً على شاكلةِ اتفاق ترسيم الحدود البحرية، عدا ذلك فإن الكيان الصهيوني يتمتع اليوم بالدعمِ الكامل والكافي لخوض أي حرب، هذا إن اتفقنا أساساً أن الحرب هي ضد الكيان لا الولايات المتحدة فماذا ينتظرنا؟
شمال الليطاني أو جنوبه لا تفرق، شمال غزة أو جنوبها لا تفرق، شمال الجولان أو جنوبه لا تفرق أنت في نظر الدول الداعمة للكيان مجرد رقم، وهناك من يرى بسيناريو غزة فرصة لا تأتي كل يوم!
سيرياهوم نيوز1-الوطن