عبدالمنعم علي عيسى
لم يكن مصادفةً أن تأتي فكرة تأسيس مؤتمر دولي خاص بالقضايا الأمنية والصراعات التي يحفل بها العالم من شتى الأنواع، من النواة الألمانية التي كانت، في خريف عام 1963، الذي شهد انطلاقة «مؤتمر ميونيخ للأمن» الأولى، جريحة ومنقسمة، بل وخائفة من أن يستطيع شطرها الشرقي تحقيق نصر من نوع «انتصار النموذج»، فتدخل الأمة برمّتها في سياق انصهارات من النوع الذي يطاول الخصوصية والهوية. والمؤكد هو أن هذا التوجه الألماني، الذي وضع أطره الدبلوماسي الألماني العريق إيفالد فون كلايست، كان قد لقي صدى في أرجاء الغرب الذي كان يخوض حربه الباردة ضد النموذج السوفياتي، الأمر الذي يفسّر الدعم الذي قدّمه الغرب للفكرة التي كانت في بداياتها أشبه بمنصة تشهد حضوراً محدوداً يتناول المشاركون فيه، محاور قليلة، وهي في مجملها تتركّز حول السياسات الغربية في سياق الإطار الشامل لـ«الحرب الباردة». وظل هذا الإطار حاكماً لها حتى انتهائه خريف عام 1989 الذي شهد سقوط جدار برلين، بكل ما حمله ذلك الفعل من تحوّلات كبرى أدّت بدورها إلى تغيير جذري في طبيعة النظرة وطريقة التفكير لدى «جماعة ميونيخ»، الذين أبدوا استعداداً للانفتاح على مشاركين جدد من خارج المنظومة الغربية. هذه المرحلة استمرت حتى عام 2010 قبل أن تؤدي التطورات التي حملها ذلك العام، وما تلاه، إلى العودة من جديد إلى «الصُّلب» الغربي، وإن كان هذا لم يتمظهر بشكل جلي تماماً إلا عام 2022، عام اندلاع الصراع الروسي – الأوكراني الذي أرخى بثقله على القارة العجوز، أولاً، ثم على العالم برمّته، ثانياً.يذكر التقرير المقدّم إلى المؤتمر هذا العام، بطبعته الستين، أن «الحرب في أوكرانيا لا تزال تشكّل خطراً ناجماً عن التهديد الروسي». لكنه يضيف أن «مؤشر التهديد انخفض عنه في العام الفائت»، كما يذكر في مقلب آخر أن «الشرق الأوسط منقسم بخصوص العلاقات مع إسرائيل، وأن الحرب الحالية في غزة أعادت المشاعر المناصرة للفلسطينيين بين شعوب عربية عدة»، ما دفع بالعديد من القادة العرب إلى «السير على حبل رفيع لاسترضاء مواطنيهم مع ضمان عدم قطع العلاقات مع إسرائيل». هذان المحوران، من بين محاور ثمانية احتواها التقرير، يشيران بوضوح إلى «البصمة» الأميركية الطاغية على «ميونيخ» منذ نحو أربعة أعوام على أقل تقدير، وهما يمثّلان إسقاطاً مباشراً لمضامين الخطاب الذي وجّهه جو بايدن، إلى المؤتمر، بعد نحو شهر على وصوله إلى البيت الأبيض.
ترامب يرى أن اقتصادات دول الأطلسي انتعشت جراء خفض الإنفاق العسكري حتى باتت تنافس الاقتصاد الأميركي
وفي ذلك الخطاب، الذي كان عنوانه الأساسي «عادت أميركا»، برزت نزعتان أساسيتان، أولاهما «التهديد الروسي» الرامي إلى «إضعاف المشروع الأوروبي وحلف شمال الأطلسي»، وثانيهما إيران التي «تمارس سياسات مزعزعة للاستقرار». وليس من الصعب على المتتبّع أن يلحظ الارتباط الوثيق بين خطاب بايدن إلى مؤتمر 2020 ومحاور مؤتمر 2024، حيث المشكلة الكبرى تكمن في مسعى أميركي للمحافظة على بقاء الولايات المتحدة عائمة على سطوح السياسة والاقتصاد العالمييْن، ونظرة إلى كل القوى التي تعارض تلك الهيمنة على أنها «معادية لقيم الغرب الديموقراطي»، و«مزعزعة للاستقرار والسلم الدوليين». والمؤكد هو أن السعي والنظرة كليهما، كانت لهما تداعيات كبرى على امتداد المناطق الساخنة في العالم، وفي الذروة منها موقع إسرائيل في المنطقة، حيث استطاعت الأخيرة عبرهما أن تضرب عرضَ الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية، وترمي وراء ظهرها كل مواقف المجتمع الدولي ومحاكمه، وهي تمضي في اجتراح سياسات وحروب تستمد «مشروعيتها» بالدرجة الأولى من أنها انعكاس لظل القوة الكبرى على الأرض، والتي لا تعلو إرادة فوق إرادتها. باختصار كان العنوان الآنف الذكر، «عادت أميركا»، ناقصاً، وما ينقصه عبارة يجب أن تليه: «نعم عادت، لكن العالم تغيّر».
يوم 11 شباط الجاري، أي قبيل أسبوع من انطلاق المؤتمر، قال الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في تجمع انتخابي، بالحرف، إنه سيشجع «روسيا على فعل ما تريد بدول حلف الأطلسي التي لا تنفق ما يكفي على الدفاع»، وكان هذا التصريح كافياً ليرخي بظلاله الثقيلة على المجتمعين في ميونيخ، لكنه يتساوق بالتأكيد مع شعار «أميركا أولاً» الذي صبغ سنوات حكم ترامب الأربع، فضلاً عن أنه ينطلق من جدلية العلاقة ما بين الجيوسياسي والاقتصادي: أيهما يجب أن يتقدّم على الآخر. ومن المؤكد أن ترامب كان يرى، حين قال ما قاله، إن اقتصادات دول الأطلسي انتعشت جراء خفض الإنفاق العسكري حتى باتت تنافس الاقتصاد الأميركي، في وقت يخوض فيه هذا الأخير معركة المحافظة على الصدارة العالمية. لكن غير المتساوق هنا، أن يذهب «الكل» إلى الاستثمار في الحدث بشكل داعم لموقف بايدن الانتخابي، والذي تشير الاستطلاعات راهناً إلى تراجعه بشكل لافت. ومثل ذلك الفعل يُوصف في الأدبيات الأميركية على أنه تغليب للخارجي على الداخلي، الأمر الذي أثيرت حوله ضجة كبرى في انتخابات 2016 و2020، لكن الجديد في الأمر هنا أن «يستسيغ» بايدن تدخلاً كهذا، بل وأن يظهر في موقع «المستقوي به».
هذا يشير إلى أن أميركا تغيّرت أيضاً، وليس فقط هو العالم الذي تغيّر.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية