تأخير تسعيرة القطن.. خسائر تتجاوز الحقل.. والزراعة ترمي الكرة في ملعب “الاقتصاد والصناعة”

في الوقت الذي انتهى فيه الفلاحون في مختلف المحافظات السورية من حصاد محصول القطن، ما يزال الإعلان الرسمي عن تسعيرته غائباً، الأمر الذي يفتح الباب أمام سلسلة من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي لا تقف عند حدود الحقل فقط، بل تمتد لتشمل مستقبل هذه الزراعة الاستراتيجية في البلاد.

ارتباك في القرار الزراعي

تأخير التسعيرة يضع الفلاح أمام مشهد ضبابي، إذ يدخل موسم الحصاد دون أن يعرف ما إذا كانت الأسعار التي ستُعلن ستغطي تكاليف الإنتاج أو ستتركه في مواجهة الخسائر، هذا الغموض ينعكس سلبًا على سلوك المنتجين، فيلجأ بعضهم إلى بيع محصولهم لتجار وسماسرة بأسعار تقلّ كثيراً عن التكلفة الفعلية، فقط لتأمين السيولة التي يحتاجونها في أسرع وقت ممكن.

خسائر تمتد إلى ما بعد الموسم

لا يقتصر أثر هذا التأخير على الموسم الحالي، بل يتعداه إلى قرارات الفلاح المستقبلية، فمع تراجع الثقة بجدوى زراعة القطن، قد يتجه العديد من المنتجين نحو محاصيل أقل تكلفة أو أسرع تسويقًا، ما يهدد إنتاجية “الذهب الأبيض” الذي شكّل لعقود ركيزة أساسية للاقتصاد الزراعي والصناعي في سورية، كما أن الصناعات الوطنية المرتبطة بالقطن –كصناعات الغزل والنسيج والزيوت– قد تعاني من نقص في المادة الخام، ما ينعكس بدوره على سلاسل القيمة الزراعية والصناعية.

السوق السوداء… البديل الخطير

التأخير في التسعير يخلق فراغاً تستغله الأسواق غير الرسمية، فمع غياب السعر المرجعي العادل، تتوسع ظاهرة البيع خارج الأطر الحكومية، وتفقد المؤسسات الرسمية دورها في ضبط السوق ودعم المنتجين، هذا الواقع يضعف قدرة وزارة الزراعة على التخطيط للمواسم القادمة ويؤثر في الأمن الاقتصادي الزراعي على المدى الطويل.

تقدير حقيقي للتسعير

مدير الاقتصاد الزراعي بوزارة الزراعة الدكتور سعيد إبراهيم أوضح أن وزارة الزراعة عملت على جمع استبيانات قامت بها أذرع الوزارة عبر مديرياتها لمحصول القطن، إضافة إلى استبيانات الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، واستبيانات مكتب القطن، ومن ثم جرت عملية التقاطع ما بين الاستبيانات المقدمة، بغية الوصول إلى التقدير الحقيقي للتسعير، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق السعرية لبعض مستلزمات الإنتاج بين المحافظات.
وبين إبراهيم لصحيفتنا “الحرية” أن الوزارة قدرت سعر الطن الواحد من القطن لهذا الموسم بحدود 7 ملايين إلى 7.2 ملايين، حيث إن تثبيت التسعير النهائي هو من صلاحية وزارة الاقتصاد والصناعة، مشيراً أن المخطط لزراعة القطن لهذا الموسم قدر 50 ألف هكتار، لكن ما نفذ قدر بحدود 33 ألف هكتار، بنسبة 68%، حيث من المتوقع وصول الإنتاجية إلى حدود مئة ألف طن.

إبراهيم: وزارة الزراعة قدرت سعر الطن الواحد من القطن لهذا الموسم بحدود 7 ملايين إلى 7.2 ملايين

مغامرة محفوفة المخاطر

الخبيرة في الزراعة والمحاصيل الحقلية الدكتورة انتصار الجباوي، أكدت أن تأخير الإعلان عن تسعيرة القطن لا يمسّ فقط دخل الفلاح، بل يهدد ثقة المزارعين في العملية الزراعية برمّتها، الفلاح يحتاج إلى وضوح واستقرار في السياسات الزراعية، والتسعير المبكر قبل بدء الحصاد يُعد خطوة أساسية في إدارة الموسم الزراعي. من دون ذلك، يتحول القطن من محصول استراتيجي إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.

ضرورة إعادة النظر

وبحسب الجباوي فإن هذه المعطيات تظهر أن تسعير القطن في الوقت المناسب ليس مجرد إجراء إداري، بل سياسة زراعية واقتصادية بامتياز، فالتوقيت عنصر حاسم في دعم المنتجين واستقرار الإنتاج وضمان استمرارهم في زراعة المحاصيل الاستراتيجية، ومن دون هذا الدعم، قد تجد سوريا نفسها أمام تراجع خطير في إنتاج أحد أهم محاصيلها التاريخية.

الجباوي: تسعير القطن في الوقت المناسب ليس مجرد إجراء إداري بل سياسة زراعية واقتصادية بامتياز

توصيات عملية

وبينت الجباوي لصحيفتنا “الحرية” أنه يمكن تفادي هذه التداعيات، من خلال جملة من الحلول منها، إعلان التسعيرة قبل موسم الحصاد بثلاثة أشهر على الأقل لضمان وضوح الرؤية للفلاح، وربط السعر بتكاليف الإنتاج الحقيقية ومراعاة تقلبات أسعار السوق العالمية، بحيث يضمن الفلاح عائداً منصفاً، إضافة إلى اعتماد آلية مرنة للتسعير تسمح بالتعديل عند الحاجة، بما يتماشى مع الظروف الاقتصادية، إلى جانب تعزيز الشفافية والشراكة عبر إشراك اتحادات الفلاحين والباحثين الزراعيين في مناقشة آليات التسعير، فضلاً عن إيجاد قنوات تسويق بديلة منظمة تحدّ من تدخل السماسرة وتؤمن وصول القطن مباشرة إلى الصناعات الوطنية.