| أسعد أبو خليل
أغمضُ عينيّ أحياناً (نظريّاً) وأتخيّل تلمّسَ مسار التاريخ العربي المعاصر من زاوية التآمر الغربي ضد بلادنا. إن نشر وثائق «ويكيليكس»، ثم وثائق سنودن، بالإضافة إلى نشر الوثائق الأميركيّة والبريطانيّة الرسميّة في أرشيف العواصم (بعد إخضاعها للمراقبة) كلّ ذلك سيعيد النظر—أو يجب أن يعيد النظر—في رؤيتنا لتاريخنا المعاصر. كنا نسخر—حتى نحن في حركات اليسار العربي المتطرّف—من نظريّة المؤامرة ومن الحديث عن الدور الإمبريالي وعن خطاب الحركة الوطنيّة الخشبي (بصورة منفّرة). لكن دور دول الغرب في حياتنا السياسيّة كان أكبر بكثير مما نظنّ، وهو متعاظم منذ 11 أيلول. وإعادة النظر في تاريخنا المعاصر ستحتاج إلى مراجعة نظرتنا بصورة خاصّة إلى دور بريطانيا في الشرق الأوسط. النظرة المعتادة تقول إن بريطانيا تلقّت صفعة مصريّة وأميركيّة في العدوان الثلاثي على مصر وأنها منذ ذلك الزمن تقاعدت عن العمل في منطقتنا، تاركةً الساحة بأكملها للاعب الأميركي كيف يفعل فيها ما يشاء (ببساطة يتحدّثون في الغرب عن «لعبة» وعن «لاعب» في حديثهم عن مصائر شعوب العالم النامي وعن حروبهم ومؤامراتهم). بريطانيا خسرت مستعمراتها لكنها لم تفقد استعمارها بالعقليّة والتآمر. بريطانيا كانت حاضرة بقوّة في الحرب الأهليّة في عام 1958 في لبنان لأن كميل شمعون كان عزيزاً عليها (ومرتبطاً بها رسميّاً وسرّياً قبل سنوات من تبوّئه منصب الرئاسة حيث يرد في كتاب مئير زمير «الحرب الأنكلو-فرنسيّة السرّية في سوريا ولبنان، 1940-1948، أنه مع محسن البرازي كانا يقومان بأعمال سرّية لصالح الحكومة البريطانيّة—فتى بريطانيا الأغرّ).
وقبل سنتيْن، نشرت هذه الجريدة وثائق عن ضلوع ونشاط تجسّسي كبير لبريطانيا في لبنان، حيث اخترقت الحكومة البريطانيّة، عبر ستار شركات علاقات عامّة واستشارة، جمعيّات ومراكز ومؤسّسات رسميّة لبنانيّة من الشمال إلى الجنوب. وبريطانيا كانت شريكة في الحرب الأميركية على العراق، وتعتمد أميركا على بريطانيا في العمل الدعائي لأن أجهزة الاستخبارات البريطانيّة أشطر من الحكومة الأميركيّة في إعداد ناطقين باللغة العربيّة (كل الدول الأوروبيّة أفعل من أميركا في إعداد ناطقين باللغة العربيّة من غير الأصول العربيّة، خصوصاً أن الحكومات الغربيّة لا تثق إلا بالبيض في الأعمال الفائقة السريّة).
إن مناسبة هذا الحديث هي نشر جريدة «الغارديان» البريطانية وثائق رسميّة مفرجة عنها تتعلّق بمنطقتنا من خلال أبحاث المؤرّخ لعالم الاستخبارات الغربيّة، روري كورماك، في كتابه الذي سيصدر قريباً بعنوان «كيف تُجري انقلاباً: ودروس عشرة أخرى من العالم السرّي للدول» (ولي عودة مفصّلة للكتاب بعد صدوره). الكتاب يتحدّث عن عمليّات «بروباغندا سوداء» عبر العقود في الدول النامية ضد، ليس فقط الاتحاد السوفياتي والصين، بل أيضاً ضد مجموعات تحرريّة ويساريّة (البروباغندا السوداء هي غير البروباغندا الرماديّة، إذ إن الأولى تهدف إلى نسب معلومات وأعمال إلى أعداء الطرف الذي ينتج البروباغندا). وتعترف التقارير بأن الحكومة البريطانيّة كانت تجنّد وتعبّئ الرأي العام الإسلامي ضد الاتحاد السوفياتي ولم تكن تتورّع عن الترويج لحركات دينيّة محافظة، ولم تمتنع أيضاً عن دعم حركات رجعيّة ولو كانت تنطق بخطاب كراهية ضد إسرائيل (من قال إن مصلحة إسرائيل تعلو على مصلحة الاستعمار الغربي عند حكومات الغرب؟).
والوثائق تغطّي حقبة الخمسينيّات حتى السبعينيّات من القرن الماضي. وهذه فترة مهمّة لأنها تدحض فكرة (روّجتها في ربوعنا بريطانيا نفسها) بأنها تراجعت في تغلغلها الاستخباراتي والسياسي في شؤوننا وأنها أخلت الساحة للدور الأميركي. ويقول المؤرّخ البريطاني الذي درس الوثائق إن «الحكومة البريطانية انخرطت في بروباغندا سوداء إلى درجة فاقت افتراضات المؤرّخين وأن هذه الجهود (الحكوميّة) كانت أكثر طموحاً وتنظيماً وهجوميّةً (مما ظُنَّ)، وأنها تجاوزت (مزاعم) كشف عمليّات تضليل الاتحاد السوفياتي» (من مقابلته مع «الغارديان»).
لقد أنشأت الحكومة البريطانيّة «قسم أبحاث المعلومات» لمواجهة هجوم الدعاية السوفياتية ضد بريطانيا، وأن نشاطها (حسب «الغارديان») قلّدَ نشاط عمليّات الدعاية التابعة للمخابرات الأميركيّة في زمن الحرب الباردة. وتذكّر «الغارديان» بكشف عمليات «قسم أبحاث المعلومات» في أندونيسيا في عام 1965، عندما شجّعت ورعت وحرّضت على ارتكاب المجازر ضد الشيوعيّين في البلاد (والتي ذهب ضحيّتها مئات الآلاف). وقامت الحكومة البريطانيّة بنسب كتيّباتها الدعائيّة (زوراً) إلى وطنيّين أندونيسيّين لإضفاء المصداقيّة (مع أن المؤلّفين كانوا موظّفين بريطانيّين). وعمل 360 شخصاً في «قسم أبحاث المعلومات» في أوج عملها في منتصف الستينيّات (الـ«بي.بي.سي» في تقرير من عام 2019 قدّرت عدد الذين عملوا في القسم بين 400 و600 حسب كتاب بول لاشمار في «حرب البروباغندا البريطانية السرّية») وتميّز «الغارديان» بين «وحدة التحرير الخاصّة» التي كانت فائقة السرّية وتوظّف أعداداً أقل وتخصّصت في «جهود البروباغندا السوداء» وبين «مكتب أبحاث المعلومات». والهدف من كل هذه الأعمال (وهي ترافقت مع جهود أخرى من دول أخرى مثل أميركا) هو التأثير على الرأي العام في دول أفريقيا والشرق الأوسط. وكانت تمدّ عدداً من الصحافيّين (المحليّين) بتقارير معتمدة على أجهزة الاستخبارات لكن معدّة بطريقة توحي بأنها تعتمد على مصادر ومحلّلين مستقلّين (وكانوا بإمرة «وحدة التحرير الخاصّة»).
إن مناسبة هذا الحديث هي نشر جريدة «الغارديان» البريطانية وثائق رسميّة مفرجة عنها تتعلّق بمنطقتنا من خلال أبحاث المؤرّخ لعالم الاستخبارات الغربيّة روري كورماك
ولم تتورّع تلك الأجهزة عن «تزوير بيانات لوكالات ومؤسّسات سوفياتيّة». ويرد في الوثائق أنه بين عامي 1965 و1972، زوّرت «وحدة التحرير الخاصّة» 11 بياناً (مزوّراً) لوكالة «نوفوستي» ونشرتها—حتى في الصحافة الغربيّة. وواحدة من هذه التزويرات تتحدّث عن غضب سوفياتي مزعوم نحو مصر لأن الحكومة المصرية بدّدت الأسلحة والمعدّات السوفياتيّة في حرب 1967. حاول وأنت تقرأ هذه المعلومات المؤكدة عن أكاذيب وأضاليل حكومات الغرب أن تقارن في ذهنك ما تقرأ في صحافة العرب اليوم عن إيران وعن كل حكومة تعاديها أميركا. تذكّر أن كل ما نقرأه من أخبار قتل عجيبة في كوريا الشمالية هو من صنع جهاز البروباغندا السوداء في كوريا الجنوبيّة. عندما قرأتُ عن هذه التزويرات لـ«قسم أبحاث المعلومات» تذكّرت عدد المرات التي أقرأ فيها في «الشرق الأوسط» (سعوديّة) و«القدس العربي» (قطريّة) «معلومات» عن غضب إيراني من سوريا وعن غضب سوري من إيران، وعن غضب روسي من سوريا وعن غضب سوري من روسيا وعن غضب روسي من حزب الله، ويمكن من دون انتظار وثائق الجزم بأن هذه الأخبار مزروعة من أجهزة تضليل غربيّة ومحليّة. هناك في كل صفحة في «الشرق الأوسط» نصف صفحة أحياناً أستشفّ منها أعمال بروباغندا سوداء مزروعة من أجهزة غربيّة في الصحافة العربيّة. وجهاد الخازن كشف (في لحظة تخلٍّ) أن رئيس جهاز الاستخبارات السعوديّة، تركي الفيصل، كان يمدّه بتقارير من جهازه وكان ينشرها في «الحياة» على أنها مقالات عاديّة. والحكومة الأميركيّة تعاقدت مع «مجموعة لينكلن» بعد 11 أيلول من أجل إعداد مقالات وتقارير عن العراق وعن غيره ونشرها في الصحافة العربيّة (المتعاونة) للتأثير على الرأي العام العربي (وتكون المقالات ممهورة بأسماء عربيّة مزوّرة). قلَّ الاعتماد على الصحافة المكتوبة، على الأرجح، باستثناء «الشرق الأوسط» و«النهار» وغيرهما من صحف الرجعيّة التقليديّة. أصبحت الشاشات هي التي تعمل أميركا على التأثير عليها، وهذا يفسّر الازدهار المالي للمحطات الثلاث في لبنان منذ الانهيار. وإلا ماذا يفسّر أنه بالرغم من شحّ أموال الإعلانات فإن المحطات الفاسدة الثلاث تتنعّم بالدولارات الطازجة؟
واختلقت «وحدة التحرير الخاصّة» منظمة إسلاميّة وهميّة سمّتها «رابطة المؤمنين» ونسبت إليها هجاء للروس وغير المؤمنين وهي «لامت الهزائم العربيّة على النقص في الإيمان». ويغطّي الصهيوني اللبناني، فؤاد عجمي، في كتابه «المحنة العربيّة» عن الثقافة السياسيّة العربيّة بعد حرب 1967 تنامي أصوات الدعوة إلى العودة إلى الدين والتديّن كحلّ لمشاكل العالم العربي وللتعامل مع الخطر الصهيوني. ها نحن نعلم اليوم أن تلك الأصوات، التي بلغت الذروة في العصر الساداتي عندما أطلق السادات على نفسه لقب «الرئيس المؤمن»، كانت إمّا مُختلقة أو مرعيّة من قبل حكومات الغرب. أطلق السادات، وبالتأكيد بتنسيق مع حكومات الغرب وأجهزة استخباراتها ودعايتها، العنان للحركات الدينيّة المتزمّتة لأنها كانت خير ردّ على نفوذ وشعبيّة اليسار والقوميّين العرب في حينه. ودور السادات، الذي كان بالتأكيد ينسّق بروباغندا نظامه مع حكومات الغرب، كان بالغ التأثير. السادات كان أبرع في البروباغندا من النظام الناصري نفسه. السادات استعان بـ«الإخوان» وصنّع أول داعية تلفزيوني بشخص محمد متولي شعراوي. محمد متولّي شعراوي (الذي عمل لسنوات في السعوديّة قبل عودته إلى مصر) سجد شكراً لهزيمة مصر في حرب 1967. والعلاقة بين خطاب الدين والتديّن وبين مؤامرات الغرب لم تعد محض تحليل نظري لا يعتمد على وثائق منشورة. المشكلة أننا لم نتنبّه—والنظام الناصري لم يتنبّه بما فيه الكفاية—إلى حجم التآمر الغربي عبر المنظمات الدينيّة السياسيّة. عبد الناصر كان مسالماً مع «الإخوان»، خلافاً لما أشيع. قارنوا كيف تعاملت الإمارات مع «الإخوان» في السنوات الأخيرة حيث حاربتهم في كل العالم وكيف حاربهم عبد الناصر.
جهاد الخازن كشف (في لحظة تخلٍّ) أن رئيس جهاز الاستخبارات السعوديّة، تركي الفيصل، كان يمدّه بتقارير من جهازه وكان ينشرها في «الحياة» على أنها مقالات عاديّة
وتدخّلت الأكاذيب البريطانيّة في تسعير الخلاف الصيني الروسي في إنتاج بيانات بالعربيّة تنتقد فيه الدعم المحدود الذي كان الاتحاد السوفياتي يقدّمه لفصائل المقاومة الفلسطينيّة مقابل الدعم الصيني (في أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات لم يرتح الاتحاد السوفياتي لبروز حركات المقاومة لأنه خشي من جرّه إلى مواجهة مع أميركا كما أن الأهداف الطموحة لتلك الفصائل تناقضت مع الرؤية التسووية للاتحاد السوفياتي للصراع العربي-الإسرائيلي). وقبول الجبهة الشعبيّة والديموقراطية للدعم والرعاية السوفياتية جاء بالمحصّلة على حساب المواقف الجذريّة. الجبهة الشعبيّة فصلت وديع حدّاد بأمر من الاتحاد السوفياتي، مع أن جهاز الاستخبارات السوفياتي حافظ على علاقة سرّية مع حدّاد حسب ما روى لي مسؤول رفيع في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين نقلاً عن حوار بينه وبين وديع حداد—ويتحدّث «أرشيف متروخين» عن تلك العلاقة لكن مضمون الأرشيف، كما رويتُ من قبل، مشكوك فيه.
لا نشكّ في علم المسؤولين البريطانيّين على مستوى رفيع لأن هناك وثيقة يأمر فيها رئيس حكومة بريطانيا في عام 1964، ألك دوغلاس هيوم، «قسم أبحاث المعلومات» باستهداف كوامي نكروما، الذي كان هدفاً لمؤامرات الغرب. وقد عمل وزير الخارجية العمّالي في الستينيّات، باترك وولكر، على إثارة النعرات العنصريّة بين الأفارقة والصينيّين. وهناك من لا يزال يشكك في بلادنا أن إثارة النعرات الطائفيّة بين العرب هو عمل إسرائيلي ودول الغرب مع أن لدينا وثيقة من العشرينيّات من القرن الماضي وفيها يتلقّى حاييم وايزمان خطط الوكالة اليهوديّة لإثارة الشقاق بين الفلسطينيّين المسيحيّين والمسلمين.
ويرد في وثيقة أُفرجَ عنها في عام 1996 (موجودة في كتاب لاشمار الوارد أعلاه، «حرب البروباغندا البريطانية السرّية») كيف أن الحكومة البريطانيّة بذلت جهوداً كبيرة لاستعمال أعمال جورج أورويل في العمل الدعائي ضد الشيوعيّة. ودعت الحكومة البريطانية إلى ترجمة أعمال أورويل إلى لغات عديدة. ودعت الحكومة البريطانيّة إلى ترجمة «مزرعة الحيوان» إلى العربيّة لأن الخنازير والكلاب نجسة عند المسلمين (ص. 96 من الكتاب). وتم التنسيق لنشر الكتاب في مصر. وبحث «قسم أبحاث المعلومات» مع جورج أورويل شخصيّاً في اختيار ناشر لكتب معادية للشيوعيّة واستحسن أورويل (الذي يرد اسمه كثيراً في الصفحات العربيّة على المواقع، لكن بالمجّان حتماً) ناشراً ذا ميول يساريّة لإضفاء مصداقية. لكن أورويل اقترح ناشراً يسارياً مفيداً لكنه حذّر من أنه مشغول بنكبة الشعب الفلسطيني ونصح بالاستعانة به كي «يبعد عن ذهنه» الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة. ويقول عبده وازن، في مقالة في جريدة الـ«إندبندنت» السعوديّة، إن هناك ست عشرة ترجمة عربيّة لـ«مزرعة الحيوان» بدءاً من عام 1951. ويضيف أنه صدرت ست ترجمات عربيّة جديدة للكتاب نفسه بين عامي 2019 و2020. هذا العدد الكبير للترجمات في عصر القحط في النشر العربي يعكس أدواراً خارجيّة، على الأرجح. غير معقول هذا العدد الكبير من الترجمات (هذا أكثر من عدد ترجمات دوستيوفسكي إلى العربيّة والتي لا تزال تعتمد على ترجمات سامي الدروبي الذي نقلها عن ترجمات فرنسيّة). نظريّة المؤامرة مرّة أخرى؟ لو تقرأ أسماء دور النشر هذه لتيقّنت أن عمل «قسم أبحاث المعلومات» لم يتوقّف أبداً بل ازداد نشاطاً بمسمّيات أخرى لأن العالم العربي هو اليوم هدف رئيس للعمل السرّي لحكومات الغرب في مجال الحروب والاستخبارات والبروباغندا. المفارقة في ما ورد أن دول الغرب هي أمّ مطابخ الأخبار المزيّفة فيها، هي تتصدّر اليوم المعركة المزيّفة والكاذبة لمحاربة «الأخبار المزيّفة».