عبد القادر عثمان
يمتلك اليمن ثروات وآثاراً ضخمة، لا يزال معظمها مطموراً تحت الركام والأطلال، حتى قيل إن اليمن كنز لم يُكتشف بعد.
ففي كانون الأول/ديسمبر 2024 ذكرت “الهيئة العامة للآثار والمتاحف” في صنعاء، في صفحتها في “فيسبوك”، أن مزارعاً عثر صدفة على تماثيل أثرية في أثناء استصلاح أرض زراعية في وادي مذاب وسط محافظة صعدة، شمالي البلاد.
وقبله بأيام، تسلمت وزارة الثقافة والسياحة مجموعة من القطع الأثرية من أحد مشايخ محافظة الجوف، وصفتها الوزارة بأنها “من أهم القطع الأثرية التي تعود إلى فترة الدولة القتبانية، وهي عبارة عن تماثيل حيوانية وآدمية وأوانٍ مصنوعة من الحجر الكلس وآنية رخامية ومبخرة من المرمر الشفاف”.
اليمن.. أرض بِكر
لم يكن العثور على آثار أو تسليمها هو الأول من نوعه. ذلك بأننا عادة ما نسمع بين أوساطنا ونطالع في دوريات النشر أخباراً شبيهة بها، وفي بعض المرات نسمع أخباراً مريبة كالعثور على مومياءات في مكب نفايات، أو تهريب قطع أثرية من مواقع تاريخية، أو حتى وفاة عدد من الأشخاص بانهيار صخري في أثناء الحفر أسفل موقع أثري بحثاً عن كنوز.
وبقدر ما يدلل العثور المستمر على الآثار على امتلاك اليمن ثروة تاريخية وقومية هائلة في باطن الأرض، يمكن أن يعيد اكتشافها تشكيل تاريخ جنوب الجزيرة العربية على المستويات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والتجارية ككل واليمن على وجه التحديد، بقدر ما يثير ذلك المخاوف من استمرار النزف الخفي لتلك الثروة عبر ثقوب سوداء بدافع الكسب غير المشروع، إلى إخفاء الشواهد المادية على حضارات وممالك لا يزال كثير من تاريخها مبهَماً.
هكذا يرى كبير اختصاصيي الآثار في “الهيئة العامة للآثار والمتاحف”، صلاح سلطان الحسيني، أن استمرار العثور على الآثار يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الأرض اليمنية لا تزال بِكراً، وفيها كثير من المعطيات لعلماء الآثار لكتابة التاريخ اليمني، وسد الفجوات التي لا تزال مجهولة.
ويوضح، في حديث إلى “الميادين الثقافية”، أن “ثمة احتمالات لعمليات العثور: أولها عن طريق الصدفة، وهذا يدل على اهتمام الأهالي ووعيهم ووجود رقابة تؤدي إلى وصولها إلى السلطة الأثرية. والاحتمال الثاني يتمثل بالنبش من أجل العثور على الآثار، وبالتالي اكتشاف أمرهم ووصوله إلى السلطة فتصادرها. أما الاحتمال الثالث فوجود أشخاص يمولون هذه الأعمال لأغراض طمس الهوية اليمنية والغنى السريع من خلال البيع في المزادات نتيجة الجهل ووهم الغنى في ظل النزاع والحروب والجهل والفقر”.
ويستدرك الحسيني بالقول: “لكن استمرار النبش والعبث يجعل منها في غير موضعها وتضع كثيراً من الغموض والحيرة بدلاً من الكشف عن التاريخ اليمني”.
أطلال التجارة والممالك القديمة
توثق الأبحاث اليمنية عمليات العثور على الآثار بطرائق متعددة، وبعضها غريب، إلى حد ما، وخصوصاً في القرى والمناطق الواقعة في الأرض المستوية.
وفي هذا الشأن، يقول أستاذ الآثار القديمة في جامعة صنعاء، محمد القحطاني، إن “الآثار اليمنية بشكل عام لا تزال مدفونة ومطمورة تحت الأرض، لهذا فلا غرو أن يكشف عدد من اللُّقى الأثرية والنفائس بكل أنواعها الصناعية والفنية في جميع المناطق عن طريق المزارعين في أثناء الحراسة أو استعمال الأرض وحتى خلال إقامة منشأة حديثة أو حفر الآبار وتوصيل أسلاك الكهرباء والهاتف وربما الصرف الصحي أو شق الطرقات وما سوى ذلك”.
ويؤكد القحطاني، في مقابلة مع “الميادين الثقافية”، أن “الكثير من مناطق اليمن القديم، وخصوصاً المنطقة الصحراوية الممتدة من حضرموت إلى نجران، وهي المنطقة المجاورة لرملة السبعتين والربع الخالي، كان خطوط تجارة عالمية عُرفت بطريق اللبان والبخور، وتمر فيها القوافل التجارية المحملة بالتوابل والثروة الحيوانية والإنتاج الزراعي ومواد التصنيع المحلية التي زخر بها اليمن القديم، ونال مكانة عالمية بين الحضارات القديمة في الشرق الأدنى ومصر الفرعونية واليونان والرومان وفي شرقي أفريقيا، كما جاء ذكرها في النقوش اليمنية القديمة”.
ويضيف الأكاديمي اليمني: “على امتداد هذا الطريق التجاري نشأت مجموعة من المدن والمراكز التجارية ومحطات القوافل وعرفت بالقرى الظاهرة. وعندما تحول الطريق التجاري إلى البحر أقيمت مراكز وموانئ تجارية في ميناء قنا وباب المندب والمخا. علاوة على ذلك هناك وجود حواضر ومعابد للممالك اليمنية القديمة، والكثير من المدن والمراكز والمحطات والمواقع والحواضر التي دفنت تحت الكثبان الرملية في أطراف الصحراء وسفوح الجبال والأودية”.
أما المرتفعات الجبلية فتزخر بعدد من النفائس والمقتنيات، وتتوزع في بعض الكهوف والصخور وتحت أنقاض القرى والحصون، التي أُقيمت في تلك المجتمعات، كما يشير القحطاني.
لكن كل ذلك طُمِر بصورة طبيعية من خلال الفيضانات وموجات التصحر أو بفعل البشر نتيجة الهجرة والحروب، وما يتبعه من تأثير العوامل الطبيعية، كالرياح والعواصف الرملية، التي طمرت المتبقي من تلك المواقع ومقتنياتها.
المواقع المكتشفة لا تتعدى 15% من مجمل الآثار؟
في نيسان/أبريل من عام 2008، عثرت البعثة الأثرية الفرنسية في موقع “ديحيه” الأثري في مديرية خميس بني سعد في محافظة المحويت على أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية يزيد عمرها على 75 ألف عام، ويتوقع أنها خاصة بأقدم إنسان استوطن الجزيرة العربية، بحسب الدراسات المنفذة في هذا الموقع.
هذا الكشف التاريخي يتواءم مع ما تدونه كتب التاريخ عن اليمن القديم وتنوع حضاراته، إلا أن مجموعة من الأدلة المادية على تلك الشهادات التاريخية موزعة في عشرات المتاحف حول العالم، وتحتفظ ببعضها حكومات وأنظمة، بينما السواد الأعظم منها في باطن الأرض، أما القلة الباقية من اللقى المكتشفة فتزخر بها المتاحف اليمنية.
بشأن هذه النقطة، وفي حديث إلى “الميادين الثقافية”، يقول المدير العام للاقتناء في “الهيئة العامة للآثار”، محمد عبد الرقيب أنعم، إن “اليمن يملك مواقع أثرية كثيرة غير مكتشفة، ولا توجد أرقام دقيقة بشأنها، غير أن التقديرات تشير إلى أن ثمة كميات هائلة من الآثار موجودة في باطن الأرض”، مضيفاً أنه “بحسب تقديري، ومن خلال خبرتي في هذا المجال، فإن المواقع المكتشفة لا تصل إلى 15% من مجمل ما يملكه اليمن”.
بالنسبة إلى الحسيني فإن وجودها هذه المواقع تحت الأرض، أو تحت الماء، هو الأفضل لها من خروجها بشكل عشوائي؛ لأن كتابة التاريخ بوضوح تأتي من خلال التنقيب المنظم الذي يقرأ الطبقات ويحلل المعثورات، أما النبش العشوائي فهو أشبه بعثورك على أوراق مبعثرة من كتاب ممزق لا تعرف لأي كتاب هي ومن هو مؤلفها.
كيف يمكن العثور على هذه المواقع؟
يلفت الحسيني إلى أن “الغموض لا يزال يسيطر على قراءة التاريخ القديم، ولا تزال هناك عدة فجوات مجهولة منه فترة ما قبل الإسلام”.
ويبيّن أن التنقيب عنه وإظهاره للوجود سيشكلان إزاحة للغموض ومعرفة لتفاصيل مهمة لم تكن معروفة من قبل، الأمر الذي يتيح معرفة العلاقة بين شعوب المنطقة والعالم المجاور على غرار ما ظهر منها من نقوش ومعثورات أخبرتنا بوجود صلات مع بلاد اليونان والعراق القديم وفلسطين ومصر والهند والصين وبلاد فارس والقرن الأفريقي.
ويشير كل من أنعم والحسيني إلى “ضرورة اتباع الطرائق العلمية خلال التنقيب وإجراء المسوحات، سواء بواسطة صور الأقمار الاصطناعية ودراسة أشكال المقابر القديمة وأطلال المدن والأساسات أو عبر الطرائق وأجهزة الكشف الحديثة، لأن ذلك يحتاج إلى فرق أثرية تعمل باستمرار بشكل رسمي وموثق عبر برامج تقدم للسلطة الأثرية، حتى لا تصل تلك الآثار إلى لصوص التاريخ”.
في المجمل، فإن على “الهيئة العامة للآثار والمتاحف” مسؤولية المحافظة على الآثار اليمنية كونها البيت الرسمي الوحيد المعني بالحفظ والتنقيب والدراسة والترويج لإرث اليمن الذي يوثق تاريخه ويسند دعائم مستقبله بجذور عريقة. وفي ظل وضع اليمن الحالي، فإن التكامل في العمل بين مؤسسات الدولة والتناغم مع المجتمع من خلال صناعة الوعي أمر حتمي لتحقيق ذلك.
أخبار سوريا الوطن١_الميادين