| عبدالمنعم علي عيسى
يمكن لسرد تاريخ موجز يعرض للمحطات التي شهدتها الأحداث في الصين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945، أن يضيء على التوتر الحاصل راهنا ما بين بكين من جهة وبين تايوان والولايات المتحدة من جهة أخرى، وهو في الآن ذاته يضيء أيضاً على السياسة التي تنتهجها واشنطن تجاه هذا التوتر الذي يندرج في سياق الإستراتيجية التي وضعتها الأخيرة لمواجهة «المد الصيني» الذي دخل في حساباتها منذ نحو عقد من الزمن كتحد يهدد سيطرتها العالمية، أو هو يعود بالزمن إلى عقود خلت كانت الولايات المتحدة تتشارك فيها تلك السيطرة مع القطب السوفييتي على امتداد ما يزيد على أربعة عقود.
أدى انتصار الثورة الشيوعية في الصين بزعامة ماو تسي تونغ العام 1949 إلى هروب حكومة «الكومينتانغ»، التي كانت قائمة في بكين، إلى جزيرة تايوان البالغة مساحتها نحو 36 ألف كيلو متر مربع، وفيها استطاع «الفارون» إقامة حكومة جديدة على الرغم من أن عديدهم لم يزد عن 1.5 مليون ما كان يعادل في حينها 14 بالمئة من سكان الجزيرة، وهذي الحكومة راحت تدعي تمثيلها للشعب الصيني محاولة نزع تلك الصفة عن حكومة بكين التي قامت بعيد انتصار الثورة، والشاهد هو أن مناخات الحرب الباردة واحتياجاتها، كانت قد ساعدت في ذلك الادعاء، حيث ستحظى الجزيرة، التي لم يكن يزيد عدد سكانها على 2.5 مليون نسمة في مقابل 600 مليون يعيشون على أرض الصين، بتمثيل الشعب الصيني في المحافل الدولية ومن بينها تمثيله في الأمم المتحدة، وفي حينها لم تر الصين في الخيار العسكري، الذي يرمي إلى توحيد الجغرافيا الصينية، خادماً لمصالحها بفعل وضع داخلي مأزوم، وكذا بفعل الخلاف الصيني السوفييتي البادئ سنة 1960 الذي كان له دور مهم لجهة انكفاء بكين نحو الداخل بغية التمكين لما تحقق، ودور مهم لجهة المسار الذي ذهب إليه المصير السوفييتي العام 1991.
شكلت التلاقيات الأميركية الصينية، التي حصلت بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر لبكين العام 1971، والتي اضطرت إليها الأخيرة بفعل التضييق الذي مارسه «الشقيق» السوفييتي الأكبر، فرصة سانحة لتحقيق ما لم يكن ممكناً تحقيقه عبر الخيار العسكري، حيث ستؤدي تلك التلاقيات إلى حصول حكومة بكين على تمثيل بلادها في الأمم المتحدة، ثم تؤدي إلى تهميش دور الجزيرة في الحسابات الأميركية التي قطعت واشنطن علاقاتها الرسمية معها في العام 1979، والشاهد هو أن تلك التلاقيات كانت تمثل حالة احتياج قصوى لطرفيها، الأول الصيني الذي كان يريد الخروج من العزلة وضغوط «الشقيق» والتفرغ لمسائل داخلية كانت قد غدت شديدة الإلحاح، والثاني الأميركي الذي كان يرى أن شد بكين نحو خندقه هو فعل من شأنه الإخلال بالتوازن القائم مع موسكو بدرجة ستكون لها مفاعيلها التي لن تتأخر.
تغيرت المعطيات ما بعد تفكك «حلف وارسو» 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي 1991، ومع الصعود الاقتصادي الصيني مطلع الألفية الراهنة كانت المتغيرات تأخذ طابعا أكثر حدة، وهذا بالضرورة كان يقود إلى تغير في السياسات الأميركية التي راحت تعمل على تفعيل ورقة تايوان التي باتت أشبه بـ«كعب أخيل» صينية، حيث سيؤدي وصول تشين شوي بيان إلى الرئاسة في تايوان العام 2000 إلى قرع جرس إنذار مبكر في بكين لجهة الميول التي يبديها الأخير نحو حصول الجزيرة على استقلالها، الأمر الذي دفع بالصين إلى استصدار قانون «مناهضة الانفصال» العام 2005 الذي ينص على الحق في استخدام «الوسائل غير السلمية» ضد أي محاولة للانفصال يمكن أن تذهب إليها أي حكومة في تايوان، الأمر الذي أعطى ثماراً مؤقتة تمثلت في وصول ما ييننغ جيو إلى السلطة العام 2008 الذي جعل من التقارب مع بكين أساساً لسياسته الخارجية.
لم تفض السياسات التي انتهجها الرئيس السابق باراك أوباما خلال ولايتين، ولا تلك التي سارت على هديها سياسات خلفه دونالد ترامب، تلك الرامية إلى شد موسكو باتجاه الخندق الأميركي في مواجهة «الصعود الصيني» إلى أي نتائج تذكر، الأمر الذي كانت له انعكاساته في الداخل التايواني الذي شهد في العام 2016 وصول تساي انغ اون، إلى السلطة التي لا تزال فيها حتى الآن، حيث ستعمد هذه الأخيرة إلى مد جسور التواصل مع واشنطن بغية تعزيز «استقلال» الجزيرة، وهي نجحت في الحصول على دعم سياسي وعسكري ومالي من النوع الذي ضاعف القلق لدى بكين، إلا أن المفترق الأكبر لذلك المسار كان قد حصل مع وصول جو بايدن إلى السلطة في واشنطن مطلع العام 2021، حيث سيشتهر قول الأخير في هذا السياق أن «التزامه تجاه تايوان متين للغاية».
في أيلول 2021 ستعلن تايوان عن زيارة مسؤول أميركي رفيع في إشارة لتخلي الولايات المتحدة عن سياسة «صين واحدة»، والفعل سيتعمق أثره ما بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، شهر شباط الماضي، التي لم يكن الموقف الصيني منها يرضي واشنطن التي راحت تضغط على نحو استفزازي غير مسبوق وبشتى الوسائل، على نحو الزيارة التي أعلن عنها لرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بكل ما تحمله من إشارات ودلالات لا تستطيع بكين تجاهلها.
هناك نقطة بالغة الأهمية لا بد أن بكين تأخذها بالحسبان في سياق إدارتها للأزمة، وهي تتمثل بحصول الرئيسة الحالية لتايوان تساي انغ اون، على 8.2 ملايين صوت في انتخابات العام 2020، وتلك نسبة عالية قياساً إلى عدد سكان لا يتجاوز الـ23 مليون نسمة، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على وجود تيار داخلي وازن يريد الانفصال، ويشير أيضاً إلى تعثر الحبال الصينية التي عمدت بكين من خلالها على شد الروابط مع الجزيرة التي تربطها بالأم عوامل أكثر من أن تحصى، وهذا يثبت أن روابط الاقتصاد، التي عمدت بكين على تقويتها، ليست كافية، فثمة عوامل أخرى حاكمة لمسارات «الاتحاد» و«الانفصال» وهي أشد تعقيداً من المنفعة التي لا تبدو أمراً حاسماً في خيارات التايوانيين.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن