الرئيسية » كتاب وآراء » تبّون وعون والنيف الجزائريّ

تبّون وعون والنيف الجزائريّ

 

 

 

سامي كليب :

 

 

 

كلمة “نيف” في الجزائر مشتقّة من الأنَفة، وتختصر كلَّ صفات العزّة والكرامة والترفّع. وهي إحدى ثوابت التاريخ والحاضر الجزائريّين، حتّى ولو أن المغالاة فيها قد يُسبب للجزائر بين حين وآخر مُشكلة هُنا وتوتّرًا هناك. وهي أيضًا من خصالِ الشخصيّة الجزائريّة، أكانت رئيس دولة أو رئيس حزب أو ضابطًا كبيرًا أو فلاحًا أو نادلاً في مقهى.

 

سيكتشف الرئيس اللُبناني جوزف عون الذي يصل بعد غد الثلاثاء الى الجزائر أنَّ في طباعِه الشخصيّة كثيرًا من النيف الجزائري دون أن يدري، فهو عُرف بصلابتِه في خلال تولّيه قيادة الجيش، وبعدم تنازلِه لمافيات السياسة التي استعبدت البلاد والعباد، حتّى ولو أن العنادَ في مواقفِه، كاد يحرمه من كُرسي الرئاسة، قبل أن يستقرّ الرأي الدوليّ والعربي عليه كأفضل خيار للمرحلة الحاليّة. من ينسى خطابَه الشهير أمام ضباط المؤسسة العسكريّة، حين رفع الصوت ضد ساسة لُبنان وحذّر من ضرب الجيش ومعنوياته. وهذا بالضبط ما يُسمّى بالنيف.

 

سيكتشف الرئيس عون أيضًا، رئيسًا جزائريًّا مُحبًّا للُبنان، وراغبًا في توسيع نطاق مساعدته في الكثير من المجالات، دون أن يطلب من لُبنان شيئًا بالمقابل. فهذا دأبُ الجزائر منذ فجر استقلالها الذي صاغته بنضال شعبها وبملايين الشهداء والجرحى والمعوقّين، حيث لم تبخل يومًا بالوقوف إلى جانب لُبنان في كلّ أزماته، أكان ضدَّ إسرائيل أو في زلازله الداخليّة من الحرب الأهلية إلى تفجير المرفأ.

 

حين كلّف الرئيس عبد المجيد تبّون، الدبلوماسي العريق والمثقف الموسوعي والكاتب الألمعي كمال بوشامة بمنصب سفير في لُبنان، أوصاه بأن يبذل كل ما يستطيع لمساعدة لُبنان في كل ما يحتاجه من مواد بناء، ومعدات وعتاد للجيش، ونفط، ومنح تعليميّة، وكلّفه ببناء أكبر صرح ثقافيّ جزائريّ في بيروت، انطلاقًا من قناعته بأن لُبنان كان وسيعود منارة ثقافية عربيّة وعالميّة. ولعلّ إقفال ملف الاتهام الظالم لشركة سوناطراك الجزائريّة في لُبنان سيُساهم في إعادة بواخر النفط، والإعلان عن استعادة الخطوط الجويّة المباشرة بين الجزائر وبيروت.

 

لم تعرف الجزائر لغة المصالح مع لُبنان، لكنّ في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها في علاقاتها المتوترة مع فرنسا، ومع بعض الدول الأفريقية، ومع الجارة المغربية، وحتى مع روسيا وبعض الدول العربيّة، يحاول الرئيس تبّون أن ينوّع علاقات الجزائر الخارجيّة، فيوسّع نطاق الاتفاقات التبادلية والعسكريّة مع الولايات المتحدة ( تشكل حوالي 29% من الاستثمار الأجنبي المباشر في الجزائر لعام 2024)، خاصة في قطاع الطاقة البترولية، وكذلك مجالات الزراعة والتكنولوجيا والخدمات مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع روسيا، ويوقّع اتفاقيات استراتيجية مع الصين التي توسّع حضورها في الجزائر على حساب الحضور الفرنسي وباتت المورّد الأول للجزائري. وها هو الرئيس تبّون يهدي بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر غصن شجرة زيتون غرسها القديس أوغسطين في مدينة سوق أهراس شرق الجزائر. وهو بالمناسبة الرئيس العربي والإفريقي الأول الذي يلتقي البابا الجديد، وذلك بعد أن وقّع اتفاقات كُبرى مع إيطاليا التي باتت الشريك التجاريّ الأول للجزائر.

 

الأنفة الجزائريّة تُريد من خلال هذه العلاقات ان تقول لفرنسا إنّها ليست بحاجة إليها، وإنّ البدائل كثيرة، وإنَّ باريس هي الخاسرة في تعميق التوتّر الذي بدأ بسبب إعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون موقفا داعمًا لسيادة المغرب على الصحراء، ووصل الآن الى حد تبادل التضييق على الدبلوماسيّين.

 

ومع توتّر العلاقات مع بعض الدول العربية، شهدت الجزائر توسيعًا للعلاقات مع تركيا التي باتت بين كبار المستثمرين في الجزائر بإجمالي استثمارات يزيد عن 6 مليار دولار، كما أنَّ عدد الشركات التركيّة العاملة على الأراضي الجزائريّة تجاوز 1500 شركة تعمل خصوصًا في قطاعات البناء والطاقة والخدمات.

 

ماذا يفيد لُبنان؟

 

في هذا السياق بالضبط، قد لا يُشكّل لُبنان مصلحة تجارية أو استثماريّة أو اقتصاديّة للجزائر، لكنّه بالمقابل يُمكن أن يُصبح أحد ركائز المشروع العربيّ العزيز على قلب الرئيس تبّون، كما أنّ بيروت باستعادة اشعاعها الثقافي والنهضوي بمساعدة الجزائر، تشكّل ساحة تنافس فعليّ مع فرنسا، ناهيك عن الدور الذي تستطيع الجاليّة اللُبنانية في إفريقيا والعالم أن تلعبه في سياق التنسيق اللُبنانيّ الجزائريّ. فتشييد أكبر مجمّع ثقافي جزائري في قلب بيروت قريبًا ليس أمرًا عابرًا.

 

هذه أول زيارة لرئيس لُبناني إلى الجزائر منذ 25 عامًا ( وهذا تقصيرٌ مستغرب فعلاً)، وهي تأتي في ظل انتعاش مشروع إسلامي في الجوار السوري من النوع الذي يقلق الجزائر، وفي ظل توسّع الأطماع الإسرائيلية في لبنان وسوريا بعد فلسطين، وهي الأطماع التي تقف الجزائر ضدّها منذ استقلالها، ولم تتوان تاريخيًّا عن إرسال جزء من جيشها للقتال إلى جانب العرب في حرب 1973. كما أن الرئيس تبّون نفسه سعى جاهدًا لعقد أول مصالحة فلسطينية حقيقيّة على أرض الجزائر، لكنَّ ثمَّة من سارع لإفشال هذا المشروع. ولعلَّ الجزائر تطمح إلى أبعد من ذلك اليوم بشأن جامعة الدول العربية والتصويت في مجلس الأمن.

 

يستطيع لبنان الناهض من كبواته، الاعتماد على الجزائر في أكثر من قطاع وملف، وتستطيع الجزائر أن تعزّز حضورها المشرقي من بوابة بيروت، ومشروعها العربي الطموح. هي لحظة ممتازة للتعاون، وسيسمع الرئيس عون الكثير ممّا توقّعه أو لم يتوقّعه عن استعداد إدارة الرئيس تبّون لمساعدة لُبنان على النهوض وعلى نحو أوسع بكثير من آمال لُبنان. فلا يوازي الأنفة الجزائريّة سوى عمق الحبّ الجزائريّ للُبنان وشعبه.

(اخبار سوريا الوطن1-لعبة الأمم)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

العالَمُ يَشتَعِلُ من غزَّةَ إلى أوكرانيا، مرورًا بممر زِنغزور إلى تايلاند وكمبوديا

      ميخائيل عوض   ١ العالَمُ القَديمُ الأنجلو سَكسوني، بِقيادةِ حُكومةِ الشَّركاتِ الخَفيَّةِ، قَرَّرَ إشعالَ الحَرائقِ في كُلِّ مَكانٍ، وَعازِمٌ على مَنعِ إطفاءِ ...