- خليل الحاج علي
- الأربعاء 16 أيلول 2020
بحسب الروايات الإغريقية، فإن نيرون حاكم روما وقف متفرجاً على مشهد احتراق المدينة، مرتدياً زياً مسرحياً، ومُنشداً مقطعاً قديماً من ملحمة شعرية من الأدب الإغريقي. اليوم، يقف أركان الدولة اللبنانية متفرجين على مشهد الخراب الذي لحق بيروت بعد انفجار المرفأ، كوقفة نيرون تلك. صمت الدولة وعجزها عن الخراب الذي تسبّب به الانفجار، دفعا عدداً من العاملين في المجال المسرحي والفني والثقافي، إلى تنظيم ما أُطلق عليه «تجمع إغاثة المسرح في لبنان» بهدف تقديم المساعدة للعاملين المتضررين في المجال المسرحي جراء الانفجار، ولإعادة بناء ما تهدّم في المسارح والمساحات والفضاءات الثقافية. يضم التجمع أكثر من مئة عضو، مندرجين في هيئة منظمة، مقسمين إلى مجموعات ولجان ذات مهامّ لوجسيتية وتقنية مختلفة. التجمع الذي يضم عدداً من الفنانين اللبنانين المقيمين والمغتربين، يشكل سابقة في المسرح اللبناني لجهة لمّ شمل العاملين في هذا المجال والذين لم توحّدهم وزارة ثقافة أو نقابة من قبل، لتتجاوز أهداف التجمع لمّ التبرعات فقط، ويعاد التفكير في قضايا المسرح وإعادة طرحها والعقبات التي تحول دون ذلك، على أمل أن يكون المسرح فاعلاً وأداة تغيير حقيقية، بما يتلاقى مع تطلعات الشارع اللبناني.
حتى الساعة، الإقبال على المبادرة، إن من خلال ملء الاستمارت من قبل المتضررين، أو من خلال جمع التبرعات عبر موقع «احجز» والوسائط الإلكترونية الأخرى يُعدّ جيداً، ما دفع القيمين إلى تمديد مهلة التبرعات حتى أواخر شهر أيلول (سبتمبر) الحالي. بحسب المخرج المسرحي شادي الهبر، أحد القيمين على «تجمع إغاثة المسرح في لبنان»، فقد وصل عدد الفنانين المسرحيين المتضررين إلى حوالى 58، والعمل جارٍ على مساعدتهم بشتى الوسائل. أما بالنسبة إلى المسارح والفضاءات، فقد تمّت عملية المسح، وتبيّن أن الأضرار متفاوتة بين الصالات، إلا أن «مسرح الجميزة» في بيروت لحقه الضرر الأكبر، إلى جانب مسارح أخرى مثل «مسرح المدينة».
يعدّ «مسرح الجميزة» من أقدم مسارح بيروت، له تاريخ في انطلاقة المسرح في العالم العربي بحكم جواره من كنيسة السانتا والعروض التي كانت تقام هناك. وفق عمليات مسح الأضرار، تبيّن أن صالة المسرح تهدّمت بالكامل. بحسب جو قديح أحد القيمين على المسرح، فإن الدمار لحق بكل الممتلكات، لكن ذلك لا يشكل عائقاً أمام إعادة ترميمه، بخاصة أنّ كثيرين يتواصلون مع القيمين لتقديم المساعدة، سيما من الدول الأوروبية. إعادة الإعمار تأتي في وقت يشهد فيه البلد ارتفاعاً جنونياً في الأسعار، في ظل غياب الدعم الحكومي حتى الساعة. لكنّ ذلك يبقى سهلاً أمام حجم الخسارة المعنوية وشعور الفقدان والموت الذي عاشه الناس.
عادةً ما يصرّ الممثلون المسرحيون على كنس خشبة المسرح بأيديهم ضمن التمارين الجسدية التي تسبق العرض… لكن بعد حادثة الانفجار، فوجئ القيمون على «مسرح الجميزة» بمشهد الشباب يكنّسون الدمار، ما أعطاهم دفعاً قوياً للمضي قدماً رغم الإحباط الكبير، و أملاً بأن هذه المدينة لا تشيخ ولا تهرم.
يولي «تجمع إغاثة المسرح في لبنان» أهميةً للمساهمة في إعادة ترميم «مسرح الجميزة». حتى الآن، تم جمع حوالى نصف القيمة المالية التي تم تقديرها لمعالجة الأضرار في مسارح لبنان والعاملين المتضررين بحسب بيان للتجمع على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. تأتي هذه المبادرة في وقت توجّه فيه أصابع الاتهام إلى المنظمات والتجمعات غير الحكومية التي تعمل على الأرض بعد انفجار المرفأ. تعليقاً على ذلك، يؤكد شادي الهبر أن الشفافية هي «الشغل الشاغل للتجمع. المبلغ الذي تم جمعه، سيوزع بشكل شفاف، ويجري العمل على إعداد خطة لذلك».
على صفحة «تجمع إغاثة المسرح في لبنان» على إنستغرام وفايسبوك، انتشر عدد من الفيديوات لممثلين ومخرجين مسرحيين لبنانيين، مقيمين ومغتربين كـ: سحر عساف، زينة دكاش، كريم دكروب، أنجو ريحان وغيرهم… يدعون للمساعدة في جمع التبرعات، ويوجهون فيديوات تتحدث عن حجم المعاناة والكارثة التي حلّت بهم وبزملائهم. وبالتالي يتم الاعتماد فيه على السوشال ميديا للتسويق. على سبيل المثال، يتم التواصل من قبل أي عضو من التجمع مع المؤسسات الثقافية في لندن أو نيويورك وغيرها من المدن، لنشر الفيديوات على المواقع الإلكترونية الخاصة بالمسارح لدعم مبادرة التجمع من الخارج.
في لبنان، لا يتوافر عبر موقع «احجز» الإلكتروني أي إعلان عن عروض مسرحية مقبلة، سوى «لا عرض الليلة». العرض هذا لن يأخذ زماناً أو مكاناً، لا حبكة ولا شخصيات… وحدها سينوغرافيا المدينة المدمّرة شُيدت على مسرح جريمة السلطة: إضاءة مطفأة، سواتر فوق الحطام، ومنازل مبعثرة… التراجيديا التي عاشتها المدينة كافية لتُعلق العروض المسرحية حتى إشعارٍ آخر في ظل العبث الذي نعيشه. «لا عرض الليلة» يأتي كمبادرة من قبل «تجمع إغاثة المسرح في لبنان»، حيث يمكن لأي متبرع أن يحجز مقعداً وهمياً عبر «احجز» ويذهب ريعه إلى التجمع.
يعاد تشكيل معالم المسرح بعد الأزمات، فتنصبّ معاناة الفنانين في مضمون وشكل جديدين
تؤكد الكاتبة والممثلة وعضو «تجمع إغاثة المسرح في لبنان» ديمة مخايل متى، أنه لا يمكن التفكير حتى هذه الساعة في أي عرض مسرحي في ظل الواقع المجنون الذي نعيشه، لذا كانت فكرة «لا عرض الليلة». وتضيف: «المهم في هذه الفترة التركيز على المتضررين، وترميم المسارح، لأن القطاع الثقافي تضرر بشكل كبير بعد الخضات المتعاقبة من جراء الأزمة الاقتصادية، ووباء كورونا، وأخيراً انفجار المرفأ… الحياة ستستغرق وقتاً لتعود، وبالطبع لن تعود إلى طبيعتها… مع الأسف، الآن ليس هناك أي دور للمسرح، فكل ما نستطيع فعله هو مساعدة بعضنا البعض لنعيد دور المسرح في ما بعد».
يلاقي الهبر تطلعات متى في هذا الإطار: «الآن هو دور إعادة ترميم المسارح وتحسين ظروف العاملين فيه. من خلال ذلك، نعيد الوجه الثقافي تدريجاً، ليكون المسرح خشبة الخلاص في هذه المدينة التي تتهاوى معالمها الثقافية والعمرانية يوماً بعد آخر».
أي فنّ سيكون بعد الانفجار؟ تشير التجربة إلى أن المسرح لا يموت. أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية نهض فيها المسرح من جديد وأخذ شكلاً ومضموناً مختلفين. لبنان عاش نهضة مسرحية، بعد الحرب الأهلية أيضاً رغم تقلّص عدد المسارح في المدينة.
تشير دراسات سوسيولوجيا الفن إلى أن معالم المسرح يُعاد تشكيلها من جديد بعد الأزمات، فتنصبّ المعاناة التي يعيشها الفنانون في مضمون وشكل جديدين. هذه الـ «تروما» التي عاشها الأفراد لا يمكن لها أن تمرّ بشكل عابر، وقد تشكل لبّ الأعمال المسرحية القادمة.
مسرح الإحتجاج ينزل إلى الشارع
عادةً ما يأخذ المسرح طابع الاحتجاج والتحريض في بلد يمر بأزمات كبرى، بهدف وضع الإصبع على جرح الناس وتحريك نبضهم الثوري، وتذكيرهم بسبب شقائهم ومعاناتهم. اليوم وفي وقت لا يزال فيه عدد من المسارح غير قادر على استيعاب الجمهور، تطل مسرحية «جود» من إخراج آلان سعادة وتمثيل ضنا مخايل، من شارع الجميزة المحطم جراء انفجار بيروت، في سياق «مسرح الشارع» .
المسرحية مقتبسة من نص «جاز» للكاتب المسرحي الأفريقي كوفيه كواهوالي، أعاد المخرج كتابته وترجمته وإخراجه. تحكي المسرحية عن امرأة تسكن في مبنى يفتقر إلى مقوّمات الحياة يملأه البراز، تحاول تنظيفه مراراً وتكراراً من دون جدوى، أو أي مساعدة من أحد. بينما تعيش في قلب هذه المعاناة، تتعرض المرأة للتحرش، إلى أن تُغتصب من قبل أحد جيرانها. أعاد سعادة كتابة المسرحية بما يتوافق مع الأحداث التي يعيشها البلد، في «جود» لا يكتفي بأن يكون الاغتصاب محور الحبكة الدرامية، بل تتوسع طروحاته لتشمل العادات والتقاليد الراسخة في مجتمعاتنا في شكل مسرحي بعيد عن الواقعية. إذاً، يأتي النص من حيث الزمان والمكان والطرح، مطابقاً لما يعيشه اللبنانيون بحسب سعادة الذي يقول لـ «الأخبار»: «إننا نُغتصب كل يوم من قبل سلطة عاجزة عن فعل شيء».
ينطلق مخرج العمل من الفردية نحو المجتمع ككل، ليمارس وظيفته التحريضية ضمن «مسرح الشارع»، ليكون كابوساً مزعجاً يؤرّق من يشاهده، ويحفّزه نحو التغيير. في هذا الإطار، يشير سعادة إلى أنّ المسرح هو مساحة للتعبير عن سخطه من كل ما يعيشه هذا البلد… من خلال المسرح، يقرّر الثورة وتفجير مكنوناته الداخلية لتظهر إلى العلن. انطلق العمل على المسرحية (50 دقيقة ـــ إعداد ألكسندرا قهوجي، وتصميم صوت لجورج أبو زيد وموسيقى مارك أرنست) قبل انفجار بيروت، واليوم يأتي العرض على وقع الصدمة التي عاشها الجميع وسط سينوغرافيا للدمار في شارع الجميزة المهدّم.