لقمان عبد الله
أثارت المناورة العسكرية التي نفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر، مطلع هذا الأسبوع، تقديرات متباينة حول مستقبل الصراع في هذه المنطقة، وما إذا كانت تل أبيب قادرة فعلاً على فرض معادلات ردع جديدة هناك، أم أنها وجدت نفسها في مسرح أكبر من قدرتها على السيطرة؟
فالمناورة التي ركّزت على سيناريوات اعتراض الصواريخ الباليستية والمسيّرات المفخّخة، وإعادة تأمين الممرّات البحرية في ظلّ تهديدات حركة «أنصار الله» في اليمن، بدت أقرب إلى رسالة سياسية منها إلى عملية ذات فاعلية عسكرية مباشرة. وفيما تأتي المناورة في إطار «ردع إيران والحوثيين» وفق ما وصفتها به إسرائيل، فهي تعيد تسليط الضوء على هشاشة التوازنات القائمة منذ عقود في البحر الأحمر، حيث تتقاطع مصالح قوى إقليمية ودولية متناقضة.
ويأتي ذلك في وقت اختارت فيه الولايات المتحدة النأي بنفسها عن أي تصعيد إضافي بين إسرائيل و«أنصار الله»؛ إذ أكّد مسؤولان أميركيان، لموقع «المونيتور»، أنّ «واشنطن لم تقدّم أي دعم استخباراتي أو عملياتي للغارات الإسرائيلية الأخيرة قرب صنعاء»، ما يعكس وجود فجوة في أولويات الطرفين. وفي حين تحدّث وزير حرب العدو، يسرائيل كاتس، عن فرض «حصار جوّي وبحري على الحوثيين واستهداف مواقع للطاقة والبنية التحتية التابعة لهم»، فإنّ المسؤوليْن أقرّا بأنّ «الحوثيين فرضوا حصاراً غير تقليدي، لكنه مؤثّر، على إسرائيل».
وفي الصورة الأعمّ في البحر الأحمر الذي تختلط فيه الاستثمارات الاقتصادية بالحضور العسكري المباشر والعمليات غير التقليدية، وتتزعزع التوازنات التقليدية التي سادت لعقود، تتبلور ملامح محور غير معلن يجمع الصين وروسيا وإيران وحركة «أنصار الله» في اليمن، وهو ما يمكن وصفه بأنه تحالف رمادي أو غير رسمي، يمتلك أوراق تأثير مباشرة في ممرّات بَحريّة رئيسة. ولا يقوم هذا التحالف على معاهدات مكتوبة أو هياكل تنسيق رسمية، بل على شبكة مصالح متشابكة تسمح لكل طرف بالاستفادة من قدرات الآخر، مع الحفاظ على قدر كبير من حرّية المناورة.
مناورة إسرائيل العسكرية الأخيرة في البحر الأحمر مجرّد تفصيل في مشهد عالمي أكثر تعقيداً
وتمثّل الصين قلب هذا المحور؛ فمنذ افتتاح قاعدتها العسكرية في جيبوتي عام 2017 على بعد أميال قليلة من القاعدة الأميركية، وسّعت بكين وجودها العسكري والاقتصادي في البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر شبكة متكاملة من الموانئ والمشاريع الإستراتيجية، تشمل استثمارات في العين السخنة وبورسعيد، تمويل ميناء مصوع الإريتري وربطه بميناء عَصَب، مشاريع في بورتسودان، توسعة ميناء جدة، وسكة حديد جيبوتي – أديس أبابا. وتمنح هذه الشبكة بكين سيطرة لوجستية متقدّمة على خطوط الإمداد بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتضعها في موقع يمكّنها من ممارسة ضغوط مباشرة على الغرب في أي مواجهة محتملة.
وإلى جانبها، تؤدّي إيران دور المزوّد بالطاقة والمحرك الإقليمي، حيث تشتري الصين أكثر من 90% من صادرات الأولى النفطية رغم العقوبات، ما يتيح لطهران تمويل مشاريعها وتطوير ترسانتها. وفي المقابل، توفّر إيران ضمانات لأمن الملاحة الصينية عبر الممرّات المائية (هرمز وباب المندب)، فيما تتعامل «أنصار الله» مع السفن الصينية بصفة «محايدة»، بما يعزّز الثقة المتبادلة. وتستفيد روسيا، بدورها، من هذه الممرّات لكسر الحصار الغربي المفروض عليها منذ حرب أوكرانيا، وتقدّم دعماً استخباراتياً وتقنياً لشركائها في هذا المحور، ما يزيد من متانة التفاهم غير المعلن في ما بينهم.
ولعلّ أكثر ما يميّز ذلك التحالف هو قدرته على العمل في المنطقة الرمادية؛ فلا التزامات رسمية يمكن استهدافها، ولا خطوط حمراً واضحة يمكن التفاوض حولها. وفي هذا الإطار، تحدّثت تقارير استخباراتية غربية عن إمدادات صينية متطورة لـ«أنصار الله»، من صواريخ وطائرات مسيّرة، مقابل ضمان أمن السفن الصينية، بينما عزّزت زيارات وفود الحركة إلى بكين بين 2023 و2024 الانطباع بوجود تعاون عملياتي يتجاوز الإطار الاقتصادي.
في المقابل، بقي الردّ الأميركي والأوروبي محصوراً بالأدوات التقليدية؛ إذ اعتمدت الولايات المتحدة على الضربات الجوّية المكثّفة ضد صنعاء في أثناء حرب الـ50 يوماً الأخيرة، من دون أن تعالج جذور المشكلة، أي تدفّق الإمدادات عبر شبكات الدعم الإقليمي والدولي، فيما أوروبا، ورغم اعتمادها المباشر على البحر الأحمر الذي تمرّ عبره 40% من تجارتها مع آسيا، بدت لاعباً ثانوياً بلا سياسة موحّدة، تتأرجح بين الارتهان للمظلّة الأمنية الأميركية والخشية من الإضرار بمصالحها الاقتصادية مع الصين. وفي هذا الإطار، أظهر اتهام برلين، بكين باستهداف طائرة أوروبية خلال عملية بعثة «أسبيدس» الأوروبية، ونفي الأخيرة ذلك بشكل قاطع، هشاشة الدور الأوروبي وعجزه عن فرض معايير أمنية مستقلّة في مناطق بعيدة عن محيطه المباشر.
إزاء ذلك، تصبح المناورة الإسرائيلية في البحر الأحمر حلقة صغيرة ضمن سلسلة أوسع تتجاوز قدرات تل أبيب الذاتية. فبينما تحاول إسرائيل تقديم نفسها كقوة قادرة على حماية طرق الملاحة وردع «أنصار الله»، فإنّ الواقع يقول إنّ أي تغيير فعلي في موازين القوى البحرية لا يتمّ إلا عبر التفاعلات الكبرى بين واشنطن وبكين وموسكو وطهران، ومعها اللاعبون غير التقليديين مثل «أنصار الله».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار