موسكو | ثقيلاً جداً مرّ يوم السبت على روسيا؛ إذ أعادت أحداثه إلى شعبها صوراً لا تزال في ذاكرته من المواجهات التي اندلعت إبان انهيار الاتحاد السوفياتي ومع قيام روسيا الحديثة في تسعينيات القرن الماضي. مساء الجمعة، انفجر الخلاف بين مجموعة “فاغنر” ووزارة الدفاع الروسية بعد تراكم الأزمات بين الجانبين، منذ أن دخلت المجموعة على خط العمليات العسكرية في أوكرانيا. أحداث عديدة عمّقت الخلاف بين قائد “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، وقيادة وزارة الدفاع، من معارك سوليدار بداية العام الحالي، إلى معركة استعادة باخموت (أرتيومفسك)، مروراً بالصراع بين “فاغنر” وقوات “أحمد” الشيشانية، وصولاً إلى القرار الأخير لوزارة الدفاع حول إلزام جميع المنخرطين في التشكيلات التطوعية المشاركين في العمل العسكري، بإبرام عقود مع الوزارة بحلول 1 تموز المقبل، وهو ما رفضه بريغوجين. وطوال الأسبوعين الماضيين، خرج زعيم “فاغنر” بأكثر من تصريح شكّك فيه في الأخبار حول نجاح القوات الروسية في صدّ الهجوم الأوكراني المضاد المستمر، مدّعياً أن القوات الروسية تخسر مناطق لمصلحة قوات كييف. وبدا كل ذلك بمثابة تمهيد للحظة التي خرج فيها بريغوجين ليعلن التمرد العسكري على قيادة وزارة الدفاع الروسية، ممثلة بالوزير سيرغي شويغو، ورئيس الأركان، فاليري غيراسيموف، بعد اتهامه الجيش الروسي بقصف قواته في أوكرانيا، معلناً قيادة “مسيرة من أجل العدالة”، ونافياً أن يكون بصدد تنفيذ “انقلاب عسكري”.
بعد ذلك، تسارع مسلسل ردود الفعل والردود المضادّة، والذي افتُتح بقضية جنائية ضد بريغوجين بتهمة التمرد العسكري، ليحلّ فجر السبت مع إعلان بريغوجين السيطرة على مدينة روستوف أون دون، والسيطرة على مقر قيادة العمليات الجنوبية، والمنشآت العسكرية في المقاطعة، ثم لاحقاً السيطرة على فيرونيج، والزحف إلى موسكو، في إطار ما سمّاه الذهاب “إلى أبعد مدى” في معارضة الجيش الروسي. ودفعت هذه التطورات الرئيس الروسي، فلايمير بوتين، إلى الخروج في خطاب إلى الشعب، تعهد فيه بسحق التمرد المسلح، واصفاً إياه بأنه “طعنة في الظهر”، ومتهماً بريغوجين بـ”خيانة” روسيا تلبية “لطموحات شخصية”. وتدحرجت إثر خطابه هذا، التطورات بشكل دراماتيكي أوحى بأن المواجهة ستقع بين الجيش الروسي وقوات “فاغنر”، وخصوصاً مع تقدم الأخيرة باتجاه موسكو، في وقت كانت فيه قوات “أحمد” الشيشانية قد وصلت إلى مدينة روستوف، وهو ما أنذر بمواجهة بين قوتين عسكريتين ضخمتين تضمران لبعضهما البعض العداء. وأنذر كلّ ما تَقدم بأن البلاد تتجه نحو صراع داخلي في توقيت صعب، أكد بوتين أنه لن يسمح بوقوعه، فيما كان بريغوجين قد رفض دعوة الرئيس إلى تراجع قواته. وإذ بدا رفضه بمثابة عصيان ضد بوتين، فقد أكد بريغوجين، في منشور على صفحته في “تيلغرام”، أنه لا يهدف إلى الإطاحة بالرئيس أو النظام الروسي، بل هدفه فقط الإطاحة بوزير الدفاع ورئيس الأركان.
ad
في ظلّ ذلك، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها وأوكرانيا في حالة غبطة، حيث بدا لهم أن روسيا دخلت دوامة صراع داخلي. لكن ووسط حالة الترقب، خرجت الرئاسة البيلاروسية لتعلن انتهاء “عصيان” بريغوجين وقواته، بعد وساطة قادها الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، بالتوافق مع الرئيس الروسي. وأعلن المكتب الإعلامي للرئيس البيلاروسي موافقة زعيم “فاغنر” على اقتراح لوكاشينكو بشأن عدم جواز ارتكاب مذبحة دموية على أراضي روسيا، ووقف تحركات مسلحي المجموعة في البلاد، واتخاذ مزيد من الخطوات لتهدئة التوترات. وكشف المكتب أن الاتفاق يتضمن تقديم ضمانات أمنية لمقاتلي “فاغنر”. وفي وقت لاحق، خرج بريغوجين بتصريح مسجل أكد فيه تراجع قواته بعدما كانت على بعد 200 كيلومتر من موسكو، وعودتها إلى معسكراتها، موضحاً أن القرار اتخذ حقناً للدماء. من جهته، كشف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أبرز نقاط الاتفاق، وهي إسقاط التهم الجنائية ضد بريغوجين ومنع محاكمته ومغادرته إلى بيلاروس، منع ملاحقة مقاتلي “فاغنر”، توقيع عقود مع وزارة الدفاع لبعض مقاتلي المجموعة ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في محاولة التمرد، وضمّهم إلى صفوف القوات المسلحة الروسية. وعلى إثر ذلك، أظهرت صور خروج بريغوجين من مقر قيادة العمليات العسكرية الجنوبية في موكب، بالتوازي مع بدء انسحاب قوات “فاغنر” من مدينة روستوف أون ودون، ومدينتي فيرونيج وليبتسك.
ad
وفيما نجحت الوساطة البيلاروسية في تجنيب روسيا صراعاً دموياً، بقيت أسئلة كثيرة من دون أجوبة، بداية من مصير وزير الدفاع الروسي، ورئيس هيئة الأركان، اللذين غابا عن المشهد كلياً يومي الجمعة والسبت، وشكلت الإطاحة بهما أهم ما دفع بريغوجين إلى تمرده. وفيما أكد الكرملين أن التغييرات في الموظفين في وزارة الدفاع لم تناقَش خلال المفاوضات، أعلن بيسكوف أنه ليس على علم بأيّ تغييرات في موقف بوتين من شويغو، في معرض رده على سؤال عما إذا كان بوتين لا يزال يثق بوزير الدفاع. كذلك بقي السؤال حول وضع بريغوجين المستقبلي، وارتباطه بقوات “فاغنر” ودوره العسكري، معلَّقاً، وخصوصاً أن للمجموعة دوراً بارزاً في أكثر من ساحة تهمّ روسيا، من الحرب في أوكرانيا إلى أدوارها المتعددة في أفريقيا.
ad
علامات استفهام عديدة ستظلّ مطروحة، وخصوصاً أن صورة روسيا على المستوى العالمي قد تأثّرت نتيجة قبول موسكو التفاوض مع رجل “مافيوي”
وبالعودة إلى أحداث السبت، فإن العامل الأهم، الذي منع نشوب صراع أهلي، وفق المراقبين الروس، كان موقف المجتمع الروسي، وممثلي المناطق الروسية، وكبار السياسيين، والزعماء الدينيين، والشخصيات العامة، ومقاتلي الخطوط الأمامية، الذين دانوا جميعاً “مغامرة” بريغوجين، فيما أظهر الموقف الشعبي إدانة واضحة للتمرد العسكري، والتفافاً حول الرئيس. وبحسب المراقبين الروس، فإن بريغوجين لم يخسر بالوسائل العسكرية، بل بالوسائل السياسية والدعائية، إذ لم يظهر المجتمع الروسي أيّ تأييد فعلي لتحركاته، وهو ما أجبره على التخلّي عن مغامرته، ووقف التمرد، والموافقة على اتفاق ودّي. وفيما يؤكد الخبراء أن الرئيس الروسي نجح في تجنيب البلاد صراعاً دموياً، وأن البلاد استطاعت التغلب على أزمة سياسية واجتماعية، وأن النظام نجح في إثبات استقراره، مع تأكيده استمرار العملية العسكرية في أوكرانيا حتى تحقيق أهدافها، فإن علامات استفهام عديدة ستظلّ مطروحة، وخصوصاً أن صورة روسيا على المستوى العالمي قد تأثرت نتيجة قبول موسكو التفاوض مع رجل “مافيوي” من مثل بريغوجين، بالإضافة إلى أسئلة تحتاج إلى أجوبة سريعة حول ما إذا كان النظام الروسي لا يزال على متانته، أو أن الرئيس الروسي هو الضمانة الوحيدة القادرة على منع الصراع بين أجنحته.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية