مها سلطان
خلف المشهد الساخن في الجنوب السوري، ومعه الجنوب اللبناني، تكمن حسابات أبرد وأعمق تتحكم بمسار التطورات، تصعيداً أو تهدئة، بين سوريا و”إسرائيل”، بل وبين لبنان و”إسرائيل” أيضاً. هذه الحسابات ترتبط، بحكم الأمر الواقع، بحركة اللاعبين المؤثرين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب أطراف إقليمية عربية وغير عربية، كما ترتبط بالسياسات السورية وكيف تبني الحكومة استراتيجيتها في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لمناطق الجنوب، والتي تتسع على نحو خطير في الميدان وفي الأهداف، ولا سيما في محافظتي القنيطرة ودرعا.
وفي الوقت الذي وصلت فيه التهديدات الإسرائيلية إلى حدّ القول إن “الحرب مع سوريا حتمية”، يبقى التركيز منصباً على التحركات الأميركية والقدرة على لجم اندفاعة جديدة نحو حرب ستنعكس، في حال وقوعها، على مجمل الإقليم، مزيداً من العرقلة لأهداف دمشق وواشنطن في المنطقة ومساعيهما لترسيم خرائط سياسية واقتصادية نهائية تحفظ نفوذهما ومصالحهما. ولا يخفى أن الإدارة الأميركية تبذل جهداً كبيراً لإبرام اتفاق أمني بين سوريا و”إسرائيل”؛ فمبعوثها الخاص، توم براك، يكاد لا يغادر المنطقة حتى يعود إليها، ومن المقرر، وفق تقارير إعلامية متداولة، أن يزور “إسرائيل” مجدداً خلال الأيام المقبلة.
بهذا المعنى، تفرض الحسابات الأميركية نفسها على الحسابات الإسرائيلية وتؤطرها ضمن “قواعد تصعيد” لا تسمح بالانزلاق إلى حرب شاملة، لكنها لا تلغي احتمال لحظة انفلات لا تنفع معها لا حسابات ولا قواعد.
المسار الميداني للانتهاكات الإسرائيلية في جنوب سوريا يعكس مخاوف واسعة النطاق في المنطقة، بل وحتى على الدور الأميركي نفسه. فهذه الانتهاكات لا تغيّر فقط قواعد الاشتباك المعهودة في الجنوب السوري، بل تستهدف، في جوهرها، تقويض الإطار القانوني للاتفاقيات الأممية التي كرّست، لعقود، حالة تهدئة محسوبة بين سوريا و”إسرائيل”. الحديث يدور هنا عن اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974، القائمة على ركيزتين أساسيتين: إقامة منطقة فصل أو منطقة عازلة، وإنشاء قوة أممية تشرف على تنفيذ الاتفاق، هي قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك “أندوف”.
المسار الميداني
إذا كانت الاعتداءات الإسرائيلية تغيّر قواعد الاشتباك في الجنوب السوري، فإنها تفعل الأمر نفسه في الجوار القريب، وربما البعيد لاحقاً، ما يجعل دول المنطقة كافة معنية بما يجري. وفي الوقت نفسه، فإن تقويض الإطار القانوني لاتفاقية فض الاشتباك يضع مستقبل “أندوف” على المحك، ويطرح جملة أسئلة على المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة، التي يُفترض أنها ما زالت الراعي السياسي والقانوني للاتفاق، والمجدِّدة دورياً لولاية القوة الأممية كل ستة أشهر، حيث تمّ آخر تمديد في حزيران/يونيو الماضي، وينتهي مفعوله في نهاية كانون الأول/ديسمبر الجاري.
1071782 138022262 تحذير أممي من تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية في سوريا.. “أندوف” أمام اختبار وجودي: هل تفقد القوة الأممية دورها في الجولان؟
من هنا تبدو الأسئلة مشروعة: ما الدور الفعلي للمجتمع الدولي اليوم؟ وما جدوى التمديد المتكرر لقوة “أندوف” في ظل غياب أي قدرة ردعية حقيقية تجاه “إسرائيل”؟ أليست هذه القوة مقيّدة ومجرّدة من الفاعلية بفعل القيود الإسرائيلية على تحركاتها في المناطق الأكثر تعرضاً للانتهاكات، حيث يسقط جرحى وضحايا من المدنيين؟ بل ما جدوى أي اتفاق أمني جديد مع “إسرائيل” إذا كانت تستطيع انتهاك ما تشاء من التزامات في أي لحظة دون تبعات جدية؟ وما قيمة الدعوات المتكررة إلى التهدئة أو التحذيرات، وآخرها تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قبل يومين، ما دام لا يرافقها أي إجراء عملي ملزم يوقف الانتهاكات ويعزز اتجاهات الاستقرار في سوريا والمنطقة؟
أُنشئت قوة “أندوف” بموجب قرار مجلس الأمن رقم 350 في 31 أيار/مايو 1974، وتخضع مباشرة لسلطة المجلس. وتتمثل مهمتها في الحفاظ على وقف إطلاق النار بين سوريا و”إسرائيل”، ومتابعة تنفيذ اتفاق فض الاشتباك، والإشراف على منطقة الفصل والحدود وفق ما نص عليه الاتفاق. وقد حُدِّد عدد عناصرها بحوالى 1250 فرداً يختارهم الأمين العام بالتشاور مع الدول الأعضاء غير الدائمة في مجلس الأمن، فيما تُمدَّد ولايتها كل ستة أشهر. غير أن هذا الإطار القانوني لم يمنع “إسرائيل” من فرض وقائع جديدة على الأرض.
في تقريره الأخير إلى مجلس الأمن، أعرب غوتيريش عن “بالغ القلق” إزاء الانتهاكات المتكررة لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974 بين سوريا و”إسرائيل”، بما في ذلك خروق وقف إطلاق النار ووجود قوات “إسرائيلية داخل المنطقة الفاصلة، واعتبر ذلك انتهاكاً صارخاً لسيادة سوريا وسلامة أراضيها. وشدد على عدم قبول أي إجراءات مخالفة للاتفاق، داعياً الطرفين إلى الالتزام الكامل ببنوده والامتناع عن أي أعمال من شأنها تصعيد التوتر، مشيراً إلى استمرار انتشار أسلحة غير مصرح بها وتحليق طائرات مسيّرة فوق المنطقة الفاصلة. كما دعا الجانبين إلى تعزيز التعاون مع “أندوف” ورفع القيود المفروضة على حركتها، محذراً من أن تقلب الأوضاع الأمنية واستمرار الانتهاكات يشكلان خطراً على سلامة أفراد القوة الأممية، وأوصى بتمديد ولايتها لستة أشهر إضافية حتى الثالث من حزيران المقبل، معتبراً أن استمرار وجودها أمر أساسي للحفاظ على الاستقرار.
ورغم أهمية تقرير غوتيريش من حيث التوصيف القانوني، إلا أنه يبدو غير متوازن عندما يضع المعتدي والمعتدى عليه في سلة دعوة واحدة للالتزام بالاتفاق. فـ”إسرائيل” هي التي تمارس الخروق على نحو شبه يومي، عبر توغلات وعمليات دهم واعتقال واعتداءات على المواطنين السوريين، على مرأى من قوات “أندوف” التي يُفترض أنها توثق ما يجري وترفع تقاريرها على هذا الأساس. هكذا يعود السؤال ذاته إلى الواجهة في كل مرة: ما هو الدور المستقبلي لـ”أندوف” في ظل إحجام الأمم المتحدة عن فرض قراراتها على الأرض؟
ماذا وراء دعوة غوتيريش الجديدة؟
الدكتور في العلوم السياسية، سليم الخراط، يرى أن ما عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة يبدو متأخراً قياساً بحجم وخطورة التطورات. ويقول في حديث لـ”الثورة السورية”: إن “تسارع الأحداث لا يُبشّر بالخير في المنطقة، مؤكداً أن موقف سوريا ثابت حيال الالتزام باتفاقية فض الاشتباك، وأن الكرة باتت في ملعب الأمم المتحدة التي تواجه اليوم اختباراً حقيقياً لمدى قدرتها على إنفاذ قراراتها وإنهاء الانتهاكات الإسرائيلية التي تقوّض الإطار القانوني الدولي”.
ويشدد الخراط على أن “إسرائيل” تنتهك بصورة مباشرة سلامة وأمن الأراضي السورية، ما يستوجب على المجتمع الدولي العمل على استعادة التوازن الأمني وإعادة تفعيل دور “أندوف” وفق ما نصت عليه بنود الاتفاق كضامن للاستقرار، مؤكداً أن الاكتفاء بالتحذيرات اللفظية لم يعد كافياً، في وقت يبدو فيه المجتمع الدولي غير مستعد لاتخاذ خطوات عملية لردع “إسرائيل” وحماية استقرار سوريا، وبالتالي استقرار الإقليم بأكمله.
ويعتبر الخراط أن الانتهاكات الإسرائيلية لسيادة سوريا يجب أن تُقرأ ضمن الخريطة الإقليمية الأوسع، حيث تبدو أهداف تل أبيب واضحة لناحية توسيع وإعادة رسم قواعد الاشتباك بما يتجاوز الجنوب السوري إلى الجوار القريب وربما الأبعد، الأمر الذي يزيد من خطورة تداعيات أي انهيار في منظومة الردع الحالية.
غير أن الخراط يلفت في الوقت نفسه إلى زاوية أخرى غالباً ما تُهمَل في التحليلات، وهي طبيعة الآليات التي تحكم عمل الأمم المتحدة نفسها. فهذه المنظمة، كما يقول، تعمل ضمن منظومة توازنات دولية تجعلها في كثير من الأحيان تركز على “تخفيف الضرر” أكثر من تركيزها على منعه بصورة جذرية، وهو ما يضعها عملياً تحت سقف مصالح القوى الكبرى. وهنا تبرز مجدداً أهمية الدور الأميركي وحدود تأثيره، ولا سيما أن الفيتو الأميركي في مجلس الأمن هو الأداة الأقوى عندما يتعلق الأمر بالملف الإسرائيلي.
من هذه الزاوية، تبدو واشنطن نظرياً على خلاف مع تل أبيب حول شكل العلاقة مع “سوريا الجديدة”، لكنها عملياً لم تنتقل بعد إلى مستوى الضغوط الحاسمة التي تغيّر سلوك “إسرائيل” في الجنوب. وخلال مؤتمر خُصص لتقييم المرحلة الجديدة في سوريا، عُقد الخميس الماضي، وضع قائد القيادة المركزية الأميركية (سينتكوم) الأدميرال براد كوبر مستقبل التعاون مع دمشق في صدارة النقاش حول السياسة الأميركية تجاه “سوريا ما بعد الأسد”.
كوبر شدد على أن واشنطن تعمل “بشكل متزايد” مع الجيش السوري لمواجهة تهديدات أمنية مشتركة، موضحاً أن القوات الأميركية قدمت منذ تشرين الأول الماضي “المشورة والمساعدة والتمكين” للسلطات السورية في أكثر من عشرين عملية ضد تنظيم داعش، إضافة إلى إحباط شحنات أسلحة كانت متجهة إلى ميليشيا “حزب الله”، مؤكداً أن هذه المكاسب “لم تكن لتتحقق لولا التنسيق الوثيق مع القوات الحكومية السورية”. وكان كوبر قد التقى الرئيس أحمد الشرع عدة مرات، وأشاد بجهود القيادة السورية في مكافحة تنظيم “داعش”، كما وجّه في السادس من كانون الأول/ديسمبر الجاري تهنئة لقوات الأمن السورية بعد اعتراض شحنة أسلحة لميليشيا “حزب الله” في ريف دمشق الشمالي.
آليات تخفيف الضرر؟!
هذا المسار من التعاون مع دمشق، الذي تعتمده إدارة ترامب، لا يتقاطع، كما يبدو، مع مقاربة “إسرائيل” على الأرض ولا مع مستوى التهديدات التي تطلقها. ومن هنا يتواتر الحديث في الصحافة الأميركية عن “خلاف آخذ في الاتساع” بين واشنطن وتل أبيب حول الملف السوري. صحيفة “وول ستريت جورنال” أشارت إلى تناقض نادر بين الحليفين التقليديين: ففي حين يدفع ترامب نحو مسار انفتاح على دمشق، بدعم سعودي–تركي، تسارع “إسرائيل”، منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، إلى تثبيت وجود عسكري في جنوب سوريا على مساحة تُقدَّر بنحو 250 كيلومتراً مربعاً، محوّلة هذه المنطقة إلى نقطة انطلاق لسياسة توسع أمني تشمل غارات ومداهمات واعتقالات متواصلة.
وترى الصحيفة أن الخلاف الأميركي – الإسرائيلي حول سوريا ليس تفصيلاً عابراً، بل هو اختبار لصلابة التحالف التقليدي في منطقة تعاد صياغة توازناتها. فسوريا الجديدة تبدو اليوم ساحة مفتوحة لإعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، وسط سياسة أميركية تحاول التوفيق بين مكافحة الإرهاب وإعادة بناء الدولة السورية، وصياغة ترتيبات أمنية جديدة بين دمشق وتل أبيب.
هذا المشهد الراهن يأتي بعد موجة تفاؤل سادت في الأشهر الأولى عقب سقوط نظام الأسد، إذ كانت إدارة ترامب تعرب عن أملها في إمكانية إبرام اتفاق أمني بين سوريا و”إسرائيل” يمهّد لاحقاً لمعاهدة سلام. لكن سرعان ما اتضح أن الطريق أكثر تعقيداً مما بدا في البداية؛ فسوريا تطالب بانسحاب “إسرائيلي إلى حدود اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، بينما يرفض بنيامين نتنياهو ذلك، ويتمسك باحتلال قمة جبل الشيخ وأراض سورية أخرى خارج المنطقة العازلة، وصولاً إلى أطراف ريف دمشق، ويصر على جعل الجنوب السوري برمته منطقة منزوعة السلاح، إضافة إلى المطالبة بممر نحو محافظة السويداء، وهي شروط ترفضها دمشق بالمطلق.
وتخلص “وول ستريت جورنال” إلى أن ترامب ينظر إلى سوريا بوصفها “حليفاً جديداً محتملاً”، في حين تواصل “إسرائيل” النظر إليها كخصم استراتيجي. أما مجلة “الإيكونوميست” البريطانية فذهبت إلى أبعد من ذلك بدعوتها “إسرائيل” إلى “اغتنام الفرصة المتاحة” وإعادة النظر في حساباتها، محذرة من أن الإصرار على رفض الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة قد “يخلق مزيداً من الأعداء” ويدفع المنطقة نحو جولات جديدة من التوتر لا يستطيع أحد التنبؤ بحدودها.
في ضوء هذه المعطيات تبدو “أندوف” اليوم أمام اختبار وجودي حقيقي، ليس فقط لجهة تجديد ولايتها من عدمه، بل لجهة جدوى استمرارها في ظل عجز المجتمع الدولي عن فرض احترام اتفاق فض الاشتباك، وترك “إسرائيل” ترفع منسوب المخاطر في الجنوب السوري، في تعارض واضح مع مسار الانفتاح الأميركي على دمشق ومع الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إعادة الاستقرار إلى الإقليم بأكمله.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة
syriahomenews أخبار سورية الوطن
