صدر مؤخرا كتاب “المغرب في الفكر الإسباني” لمؤلفه حسين مجدوبي، يعالج فيه الأفكار والتصورات التي أثرت في تشكيل العلاقات المغربية-الإسبانية من جهة، وفي تطورها من جهة أخرى علاوة على آفاق مستقبل هذه العلاقات. هذا الكتاب يأتي ليعزز الجهود الفكرية العربية وخصوصا المغربية المنصبة على تجاوز الحاجة الى فكر ينير بشكل فاعل درب واحدة من بين أكثر العلاقات الدولية تشابكا وتداخلا، وأكثرها مفارقة داخل جوار شائك.، ونعني بها العلاقات المغربية الإسبانية.
والكتاب الواقع، في 300 ص، الصادر عن دار النشر “مكتبة سلمى الثقافية” في مدينة تطوان، يبني نسقه الفكري والمنهجي من خلال تركيب فكري وتحليل تاريخي لها ضمن حقب زمنية متسلسلة كرونولوجيا، كانت حاسمة في تاريخ الجوار الإسباني المغربي. هذا الاستغراق التحليلي يمتد من حروب الاسترداد إلى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، ويسعى من خلال هذا الاستقصاء في الإمساك بالسرديات المهيمنة التي تحكمت إلى حد بعيد في صياغة الصورة أو التصور حول المغرب، واستجلى تلك السرديات في مختلف مظاهر الفكر الإسباني، سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، وعسكريا، ودبلوماسيا.
ويركز الكتاب على بعض الأحداث التاريخية المشتركة الرئيسية التي أثرت على مسار الفكر الإسباني تجاه المغرب، ولهذا، فهو يتعقب تطور الأفكار أساسا وليس سرد الأحداث. كرونولوجيا. وعلى ضوء هذا، يتناول الكتاب بالتحليل الجانب الفكري غير المعروف للمفكر الديني رايمون لول الذي وضع مخططا لغزو القدس انطلاقا من احتلال المغرب وكل شمال إفريقيا. واعتنقت إيزابيلا أفكاره التي بلورتها في “وصايا إيزابيلا الكاثوليكية” سنة 1504 ومارست تأثيرا على الفكر السياسي و على قادة توالوا على السلطة في إسبانيا طيلة القرون اللاحقة. وهكذا، نجد حلم إيزاببيلا الكاثوليكية بضرورة غزو المغرب ورفعتها الى مستوى عقائدي متوارث لدى للطبقة الحاكمة منذ احتلال مليلية سنة 1497 مرورا بحرب تطوان واحتلال المغرب وحتى استقلال المغرب سنة 1956، ومن أبرز رواد هذا الحلم الذين رغبوا في تجسيده إضافة الى إيزابيلا الكاثوليكية، ويجد كانوفاس ديل كاستيو في القرن التاسع عشر والجنرال فرانسيسكو فرانكو في القرن العشرين.
وتطورت هذه الأطروحة الى ضرورة الحفاظ على تفوق مستمر لإسبانيا على المغرب، ومن أبرز المفكرين الذين نبهوا إلى ضرورة تغليب الحذر في التعاطي مع المغرب المفكر أنخيل غانبيت في كتابه “أدياريوم غانبيت”. ويتبنى أغلب صانعي القرار في إسبانيا هذه الأطروحة، التي لا تعتبر عدائية بقدر ما هي من تقاليد السياسة الدولية، أي أن كل دولة لا ترغب في رؤية جارها يتقدم عليها في شتى المجالات، ويتعاظم هذا الشعور عندما يكون هذا الجار ذو مرجعية ثقافية ودينية مختلفة، ووقعت معه مختلف الحروب.
ويبرز الكتاب، وهو الرابع في سلسلة كتب حسين مجدوبي حول إسبانيا بعد الانتقال الديمقراطي وحول سبتة ومليلية وحول الاعلام، كيف تعتبر إسبانيا رهينة ثنائية فكرية-سياسية وهي سعيها الى اللحاق بفرنسا من جهة، وضمان تفوقها الأبدي على المغرب، فالبلدان يشكلان مرآة للمخيال السياسي والاجتماعي الإسباني، غير أن الإنتاج الفكري بشتى تلاوينيه وفي مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية يركز على الجار الجنوبي المغرب.
ويرصد المؤلف، وهو من المتتبعين للعلاقات بين إسبانيا والمغرب، دعاة الحوار مع المغرب وضرورة التعريف بأفكارهم لكي تسود مستقبلا. في هذا الصدد، يعتبر خوسي مونييو ريدوندو المعروف بدوق فلوريدابلانكا رائد الحوار بين الضفتين، بعدما جنّب إسبانيا التورط في نزاعات مع المغرب، وساهم في توقيع البلدين تحت إشراف الملك خوان كارلوس الثالث وسيدي حمد بن عبد الله على “اتفاقية الصداقة والتجارة” سنة 1767. وتزامنت في وقت كانت أفكار عصر الأنوار تجد طريقها في إسبانيا. ويرحب بأفكار التيار الأفريقاني الإنساني ومن رواده خواكين أكوستا في نهاية القرن التاسع عشر الذي طالب بالمساهمة في تحديث المغرب، وأطروحة بلاس إينفانتي في عشرينيات القرن الماضي بخلق فيدرالية أندلسية-مغربية إلى الأطروحات الحالية التي تصدر عن باحثين أكاديميين أو سياسيين مثل رئيس الحكومة الإسباني الأسبق خوسي سبتيرو الذي بدل مجهودات للتقريب بين البلدين مقارنة مع جميع رؤساء الحكومات الذين شهدتهم إسبانيا طيلة الخمسين سنة الأخيرة.
وعلاقة بالإرث الأندلسي المشترك بين ضفتي مضيق جبل طارق، يقول حسين مجدوبي “إ نه بعد قرون جاء مؤرخ وهو أمريكو كاسترو في أربعينيات القرن الماضي، وطور أطروحة الاعتراف بفضل الحضارة الإسلامية في بناء إسبانيا وأوروبا، وأن العلاقات المغربية-الإسبانية في حاجة الى مفكر من هذه الطينة لبناء خارطة طريق التعايش بين الطرفين وتسهيل سيادة الحوار مستقبلا”.
ويخصص الكتاب الجزء الرابع لقضايا راهنة، حيث تناول في فصل كامل ملف النزاعات الترابية المتمثل في سبتة ومليلية والصحراء. ويعدد مواقف الدولة العميقة من هذه الملفات بين تيار يتفهم مطالب المغرب ويدعو الى تمكنيه من السيادة على الصحراء شريطة منح الصحراويين الحكم الذاتي والتفاهم مستقبلا حول سبتة ومليلية، مقابل تيار آخر يفضل حرمان المغرب من الصحراء وسبتة مليلية ليبقى دائما ضعيفا أمام إسبانيا.
ويعتبر وجود أكثر من مليون مغربي في إسبانيا بحوالي 3% من الساكنة عاملا لتطوير العلاقات إذا جرى توظيف هذا العنصر البشري على نحو فاعل في بناء تقارب اكثر تماسكا بدل تحويله إلى موريسكيين جدد.
ويقترح الكتاب تصورات لخلق إجراءات الثقة في مجالات اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية لتطوير العلاقات الثنائية نحو “منطقة آمنة”، لا تتأثر بكثرة الأزمات الشائكة. ويعتبر حسين مجدوبي التحدي الكبير الذي يجابه هذا المقترح هو مدى نجاح البلدين في خلق “فضاء ثقافي مشترك” لتجاوز الأحكام المسبقة مصدر كل الأزمات.
والكتاب هو قراءة من باحث من الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، تابع عن قرب أزمات وأحداث البلدين منذ أواسط التسعنيات إلى الوقت الراهن صحفيا في منابر على رأسها جريدة القدس العربي، وباحثا جامعيا أنجز رسالة دكتوراه في جامعة مالقا حول خطاب الاعلام الإسباني حول المغرب. وقد يختلف تأويل الكاتب للأحداث وبعض المفاهيم حول التاريخ المشترك عن الرؤية السائدة في إسبانيا بسبب تكوينه وهويته وانتمائه إلى الضفة الجنوبية. ولهذا، تأتي بعد تحليلاته واستنتاجاته مختلفة عن أطروحات سادت في إسبانيا حول المغرب، أطروحات تعامل معها بعض الباحثين المغاربة كمسلمات، لاسيما في ظل ضعف إنتاج المدرسة الهسبانية المغربية، مع بعض الإستثناءات، التي تكتفي حتى الآن بالترجمة ونوع من التعليق بين الإعجاب ورد الفعل الرافض للأطروحات الإسبانية حول المغرب. إذ تفتقد المدرسة الهسبانية المغربية لأطروحات متكاملة حول إسبانيا. ولهذا، يوصي الكتاب بضرورة تطوير المدرسة الهسبانية المغربية، لتنتج المعرفة الكافية حول الجار الشمالي، إسبانيا، لفهم أعمق لهذا البلد.
وعموما على الرغم من أن الكتاب يقاوم أمر التأريخ للأحداث، ويركز على تحليل الأفكار المرتبطة بصياغة الصورة عن المغرب في حقب تاريخية، فإنه مع ذلك يظل في المقابل واعيا بثقل التاريخ في العلاقات المغربية الإسبانية، لا على مستوى الأحداث الجيوبوليتكية، ولا على مستوى الأفكار التي خُلقت من رحم هذه الأحداث ، وشكلت في النهاية ملامح ذاكرة قوية تشرط الحاضر وترهن المستقبل إلى شكل التعاطي مع هذه الذاكرة التاريخية التي مازلت توجه السرديات المعاصرة بين البلدين حول الآخر. ومازالت ترسم ملامح الصورة الغيرية. إن الذاكرة المشتركة على مستوى العلاقة بين البلدين الجارين ، تتحول إلى محرك للفعل وللرؤية اتجاه الأخر. وتحتاج الذاكرة نفسها إلى تجديد يخلصها من التراكمات السلبية عن الآخر كما أشار الكتاب ، لتبني ذاكرة جديدة محفزة وموجهة لبناء فضاء ثالث واعد.
سيرياهوم نيوز4_راي اليوم