سعيد محمد
أعدَّت حكومة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مشروع قانون يَستهدف إدخال «إصلاحات» على نظام الضمان الاجتماعي، تشمل رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً بحلول عام 2030. «إصلاحاتٌ» سرعان ما قوبلت برفض أحزاب المعارضة والنقابات العمّالية، التي أعلنت تفعيل حالة الطوارئ لإسقاطها، ما من شأنه أن يُغرق البلاد في موجة واسعة من الإضرابات في مختلف القطاعات
لندن | بعد محاولة أولى فاشلة لتغيير نظام المعاشات التقاعدية في فرنسا قضى عليها وباء «كوفيد-19»، أعاد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فتْح الملفّ الشائك. فأعدّت رئيسة وزرائه، إليزابيث بورن، هذا الأسبوع، مشروع قانون سيُطرح قريباً على البرلمان، ينصّ على رفع سنّ التقاعد إلى 64 عاماً، وسيكون بمثابة اختبار حاسم لِما يمكن الرئيس تحقيقه خلال فترة ولايته الثانية، ولا سيما في ظلّ تصاعد التوتّرات الاجتماعية نتيجة أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة والزيادات المطّردة في الأسعار. وبدا مشروع القانون أقلّ طموحاً من الوعود الانتخابية للرئيس الذي طالما تحدّث عن رفْع سنّ التقاعد إلى 65 عاماً، إلّا أن الحكومة زادت، في المقابل، عدد سنوات الخدمة اللازمة لحصول العامل على معاش تقاعدي كامل من 41 عاماً حالياً إلى 43. وتضمّن المشروع أيضاً زيادة الحدّ الأدنى للمعاش التقاعدي إلى 1200 يورو شهرياً – مقارنةً بـ 900 يورو حاليّاً.
وبات الفرنسيون الذكور، مع هذا القانون، يتمتّعون قانونيّاً بتقاعد أبكر بعامَين من أقرانهم في دول الاتحاد الأوروبي (وبعام للنساء). لكنّ كثيرين يَرون أن لهم الحقّ في التقاعد في سنّ الستّين، كما أُقرّ في عهد الرئيس (الاشتراكي)، فرنسوا ميتران، في عام 1982، باعتبار ذلك مكوّناً أساسيّاً من العقد الاجتماعي للجمهورية. مع هذا، تشير الأرقام إلى أن نصف الفرنسيين فقط من الذين بلغوا الـ 62 (سنّ التقاعد الحالي)، ما زالوا في سوق العمل، ذلك أن الشركات الجشعة تفضّل استخدام الشبّان الأصغر سناً والأقلّ تكلفة.
في هذه الأثناء، دعت بورن، أحزاب المعارضة والنقابات العمّالية إلى تَقبّل الحاجة إلى إصلاح نظام الضمان الاجتماعي الذي يَعتمد على مساهمة العاملين، وذلك بعدما ارتفع معدّل أعمار المواطنين الفرنسيين بما لا يقلّ عن ثماني سنوات خلال العقود الأخيرة، ما سيتسبّب بعجز ماليّ دائم خلال الأعوام الـ 25 المقبلة، وفق التقديرات المعتدلة. واستشهدت بورن بدول أوروبيّة أخرى رَفعت من سنّ التقاعد لديها على نحو ساعد في ضمان مستقبل الأجيال القادمة. ومنذ انتخابه رئيساً، مثّلت مسألة الضمان الاجتماعي للمتقاعدين الحجر الأساس في أجندة ماكرون الداخلية، إذ عاد وجدّد، العام الماضي، تعهّداته في شأن «إصلاحه»، وذلك في خضمّ حملته الانتخابية للحصول على ولاية ثانية، على الرغم من أن ذلك كلّفه وحزبه أصواتاً، وساهم في خسارته الغالبية البرلمانية التي كان حزبه الليبراليّ التوجّهات يهيمن عليها، خلال فترة رئاسته الأولى.
وتدفع مصالح الأعمال، كما بيروقراطّيو الاتحاد الأوروبي في بروكسل، في اتجاه رفْع سنّ التقاعد للفرنسيين، باعتباره واحدة من أهمّ أدوات سدّ العجز في الميزانيّات العامّة، وفرْض نوع من الانضباط الماليّ في الجمهورية التي تتعرّض فيها دولة الرفاهيّة الموروثة من أيّام الإمبراطورية لضغوط غير مسبوقة. ومن دون تقليل الإنفاق على معاشات التقاعد، فإن ذلك قد يعني أن فرنسا ستخالف قواعد سقف الدين العام المسموح به في دول الاتحاد الأوروبي.
ويقول تقرير لخبراء حكوميين، إن عدم تنفيذ تغييرات على نظام المعاشات الحالي سيؤدّي إلى تكريس حالة عجز سنوي في الناتج المحليّ الإجمالي، قد تصل إلى ما يقرب من 1% على مدى النصف الثاني من القرن الحالي، ما لم يطرأ تحوّل نوعيّ في إنتاجيّة الفرنسيين، وهو أمر مستبعد بالطبع؛ أو يصار إلى زيادة الضرائب، وهذه سياسة غير واقعيّة بحكم أن فرنسا بالفعل واحدة من أعلى الدول الأوروبيّة لناحية نسبة الضرائب المحصَّلة من الناتج المحلّي الإجمالي، وتعارضها بشدّة مصالح الأعمال البورجوازية والشركات الكبرى، أو تنتهي الحكومة إلى توسيع مساحة الدين العام الذي يتجاوز حالياً 113% من الناتج الإجمالي. ويَتوقّع الخبراء أن تحقّق خطّة ماكرون، حال اعتمادها، دخلاً إضافيّاً سنويّاً للنظام التقاعدي، يُقدَّر بنحو 18 مليار يورو بحلول عام 2030، ومن شأنه أن يقضي على عجْز متوقّع – حال عدم إقراره – قد يصل إلى 14 مليار يورو.
وسيتعيّن على الحكومة، الآن، لإمرار القانون في البرلمان، الحصول على دعْم 62 نائباً من «كتلة الجمهوريين» – يمين محافظ -، بالنظر إلى أنّها لا تمتلك غالبيّة تؤهّلها التشريع منفردة. ويشغل تحالف ماكرون الوسطي 251 مقعداً فقط، أي أقلّ من عتبة الـ 289 مقعداً اللازمة لإمرار القوانين. على أنّ عدداً من نواب «الكتلة الجمهورية» أشاروا إلى انفتاحهم على فكرة دعْم مشروع الحكومة، في مقابل تحقيق بعض المطالب. وترفض غالبيّة الفرنسيين مبدأ إجراء تعديلات على النظام التقاعدي، وترى مشروع ماكرون بمثابة محاولة للانتقاص من مكتسباتها الشخصيّة. وبحسب استطلاعات الرأي الأحدث، فإن أكثر من ثلثَي الجمهور يعارض ذلك.
وفي البرلمان، فإن كتلة المعارضة العريضة، التي تضمّ نواب عددٍ من الأحزاب اليسارية، إضافة إلى «حزب التجمّع الوطني» اليميني المتطرّف بزعامة مارين لوبن، تعارض بشدّة توجّه ماكرون، الذي انتقده قادتها من اليسار واليمين، وتعهّدوا بعرقلته، لكنّهم، من دون «الكتلة الجمهورية»، سيكونون مجرّد شهود على إقرار مشروع القانون. وبحسب مصادر المعارضة، فإن التعديلات المقترَحة تحابي فئات على حساب العمّال ذوي الياقات الزرقاء والذين غالباً ما يبدأون وظائفهم في وقت مبكر، وسيضطرّون إلى العمل لسنوات أكثر من نظرائهم ذوي الياقات البيضاء.
وفي الشارع، تخطّط النقابات العمّالية لإطلاق موجة احتجاجات متدحرجة ضدّ المشروع على مستوى البلاد، بدأ أوّلها السبت الماضي. وحذّر قائد نقابيّ بارز، الحكومة، في وقت سابق من هذا الأسبوع، من أن النقابات مستعدّة لإغلاق الاقتصاد الفرنسي بالكامل إن تطلّب الأمر. ونقلت الصحف عن فريديريك سويو، رئيس نقابة «فورس أوفريير» اليسارية المتطرّفة، قوله: «إذا كان هذا المشروع لإيمانويل ماكرون أمَّ كل الإصلاحات، فهو بالنسبة إلينا أمّ كل المعارك».
ويخشى مراقبون من تحوّل الاحتجاجات النقابية إلى أعمال شغب وفوضى في الشوارع، في وقت تتراكم فيه مشاعر الغضب في قلوب الكتلة الأكبر من المواطنين الفرنسيين، بعد تدهور أحوالهم المعيشيّة منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وما ترتّب عليها من تضخّم وركود وأزمة طاقة.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية