آخر الأخبار
الرئيسية » العلوم و التكنولوجيا » تحوّلات القيادة الذاتية في بيئات العمل المعتمدة على الذكاء الاصطناعي

تحوّلات القيادة الذاتية في بيئات العمل المعتمدة على الذكاء الاصطناعي

 

*نانسي بدران

 

 

 

يشهد العالم المعاصر تحوّلاً عميقاً في طبيعة العمل الإنساني وصنع القرار، بفعل التوسع المتسارع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة المهنية والشخصية. ولم يعد تأثير هذه التقنيات مقتصراً على تحسين أدوات الإنتاج أو تسريع الإجراءات، بل امتدّ ليطال البنية المعرفية والنفسية التي يُدار من خلالها السلوك الإنساني اليومي.

 

 

 

في هذا السياق، تبرز مسألة القيادة الذاتية بوصفها إشكالية مركزية، إذ يعاد تعريف العلاقة بين الفعل والقرار، وبين الكفاءة التقنية والحكم الإنساني، في بيئة أصبحت فيها القدرة على التنفيذ غير محدودة تقريباً، بينما ازدادت تعقيدات الاختيار وتحديد الأولويات.

 

يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي اليوم بوصفه أداة تحريرية قادرة على تخفيف العبء التنفيذي عن الإنسان. فهو يكتب الرسائل، وينظم الجداول، ويحلل البيانات، ويتولّى عددًا هائلًا من المهام التي كانت تستنزف الوقت والطاقة الذهنية. لا شك في أن هذا التحول يحقق قفزات واضحة في الكفاءة، ويمنح الأفراد شعوراً بأنهم أصبحوا أكثر إنتاجية وأفضل تنظيماً. لكن هذا الجانب الإيجابي يخفي في طياته تحدياً أكثر عمقاً، يتمثل بأن إزالة عبء التنفيذ لا تعني إزالة عبء الإدارة، بل تعني انتقاله من مستوى الفعل إلى مستوى القرار.

 

 

 

 

 

هذا التحول يعيد إلى الواجهة التمييز الكلاسيكي الذي طرحه مفكر الإدارة بيتر دراكر بين الكفاءة والفاعلية. فالكفاءة تعني إنجاز المهام بأفضل طريقة ممكنة، بأقلّ وقت وجهد وتكلفة، أما الفاعلية فتعني اختيار المهام التي تستحق أن تُنجز أصلًا. المشكلة الجوهرية في عصر الذكاء الاصطناعي ليست في قدرتنا على إنجاز المزيد، بل في خطر أن ننجز أشياء كثيرة بلا معنى. فالآلة قادرة على تسريع كلّ شيء، لكنها عاجزة عن الإجابة عن السؤال الأهم: هل ما نفعله يستحق أن يُفعل؟

 

 

 

 

 

حين يتولى الذكاء الاصطناعي مسؤولية عدد متزايد من المهام اليومية، يجد الإنسان نفسه أمام مساحة زمنية أوسع، لكنها مساحة مليئة بقرارات أكثر تعقيدًا. فالأب أو الأم اللذين يستعينان بالذكاء الاصطناعي لتنظيم شؤون الأسرة، أو اقتراح خطط غذائية، أو المساعدة في تعليم الأبناء، يملكان وقتاً إضافياً، لكنهما يظلان مسؤولين عن تحديد ما يخدم مصلحة الأسرة فعلاً، وما يتوافق مع القيم والمشاعر والاعتبارات الإنسانية التي لا يمكن اختزالها في خوارزميات. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور الإنسان في القيادة، بل يجعله أكثر مركزية وحساسية.

 

 

 

في هذا السياق، تبرز القيادة الذاتية بوصفها المهارة الحاسمة في عصر الذكاء الاصطناعي. فالإنسان لم يعد مطالباً فقط بأن يعمل، بل بأن يقود نفسه بوعي، وأن يحدد رؤيته لما يهمه حقًا في حياته المهنية والشخصية، وأن يوزع انتباهه المحدود وفق أولويات مدروسة، وأن يميز بين المواقف التي تتطلب حكمًا إنسانيًا دقيقًا وتلك التي يمكن تفويضها للآلة من دون خسارة في المعنى أو الجودة.

 

 

 

إن هذه القيادة لا تتجلى في قرارات كبرى استثنائية، بل في سلسلة متواصلة من الاختيارات اليومية التي تشكل في مجموعها اتجاه الحياة.

 

 

 

وعلى المستوى العملي، لا تقتصر القيادة الذاتية على التفكير المجرد، بل تمتد إلى كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي ذاتها. فالتفويض الفعّال يتطلب وضوحاً في التوجيه، ومهارة في تنسيق الأدوات المختلفة، وقدرة على مراجعة المخرجات وتحمل المسؤولية عنها. إن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي من دون رقابة نقدية لا يمثل تقدمًا حقيقيًا، بل شكلًا جديدًا من أشكال التخلي عن الحكم الشخصي.

 

 

 

إن تنمية القيادة الذاتية لا تتحقق عبر شعارات كبرى أو تغييرات جذرية مفاجئة، بل من خلال ممارسات بسيطة ومتكررة، قوامها الوعي والتأمل والمراجعة. فالتوقف اليومي للسؤال عمّا تم تفويضه ولماذا، وعن القرارات التي اتُّخذت بدافع السرعة لا القناعة، يمثل تدريبًا مستمرًا على استعادة زمام القيادة. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة مساعدة في هذا المسار، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى بديل عن التفكير الإنساني نفسه.

 

 

 

 

 

في المحصلة النهائية، لا يكمن التحدي الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي في أن نتحرك أسرع، بل في أن نتحرك في الاتجاه الصحيح. فالآلة ستواصل التطور في قدرتها على التنفيذ، أما العمل الأعمق الذي سيبقى حكراً على الإنسان، فهو القدرة على الاختيار الواعي، وعلى توجيه الأدوات نحو غايات ذات معنى. إن مستقبل الإنسان في عالم تحكمه السرعة لا يتوقف على ما يستطيع إنجازه، بل على ما يقرر أن يجعل إنجازه جديراً بالوقت والجهد والحياة ذاتها.

 

 

 

*الدكتورة نانسي بدران، مهندسة حلول الحوسبة للمشاريع السحابية في الحكومة الفيديرالية – أوتاوا، كندا

 

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كيف تحمي نفسك من فقدان الوصول إلى حساباتك الرقمية؟

  قد يحدث في أي لحظة أن تنسى كلمة مرورك، أو تفقد هاتفك، أو تتعرض للاختراق. لكن حين تكون حساباتك لدى شركات مثل “أبل” أو ...