| سعد الله مزرعاني
بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، بدأت تنضج عوامل موضوعية وأخرى ذاتية لتجاوز بعض النتائج الدولية الاستراتيجية لذلك الانهيار: على مستوى المستجدات والتكتلات والتوازنات. تشكّل «العملية العسكرية» الروسية في أوكرانيا أبرز مثال في هذا الصدد، من حيث هي تنتمي إلى الأسلوب الاستعماري في الشكل وتحاول مقاومته في المضمون!
كانت الآلة الإيديولوجية والسياسية والإعلامية والعسكرية الأميركية خصوصاً والغربية عموماً، روّجت، نظرياً لـ«نهاية التاريخ» (فوكاياما) معلنةً انتصار الرأسمالية الحاسم بوصفها نظاماً لا نظام بعده ولا بديل له: لإدارة العلاقات في المجتمعات وبين الدول والبشر. وأعلن هنتنغتون، استكمالاً، أن الصراع بعد الانهيار ستحدده الاختلافات الثقافية والحضارية، لا العوامل القومية أو الطبقية أو التحررية.
الأخطر، هو ما اشتقّه «المحافظون الجدد» من سياسات وخطط كونية عبّرت عنها، خصوصاً «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» الصادرة عن «البيت الأبيض» الأميركي في أيلول عام 2002 بتوقيع الرئيس جورج بوش الابن. انطلقت تلك الاستراتيجية من أن واشنطن باتت القوة العظمى الوحيدة في العالم. وعليها، استناداً إلى ذلك، أن تضع قوتها المباشرة و«الخشنة» في خدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية… وصولاً إلى فرض نمط الحياة الأميركية نفسه على كل الأمم الأخرى! الشرق الأوسط كان المختبر الرئيسي لتطبيق تلك الاسترتيجية. التبريرات، اتهامات مفبركة أو مخاطر كامنة أو متوقعة. الأدوات، الحرب «الوقائية» (الاستباقية). الوسيلة، الغزو والاحتلال. النموذج الأساسي كان احتلال العراق تحديداً (2003)، بعد احتلال أفغانستان أواخر عام 2001.
على نسقٍ متناغم ما بين استعادة السلطة في الداخل، وفق نهج مصمّم وحازم منطلقه إطلاق عملية إعادة بناء القطاعات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية، فضلاً عن العلاقات الديبلوماسية النشيطة، واصل الرئيس الروسي (بعد تأمين استمرارية إمساكه بالسلطة) نهجه في بناء عناصر القوة لروسيا المؤهلة بفضل طاقاتها العلمية وثرواتها الطبيعية، لتعود دولة عظمى على النحو الذي كانته: بمستوى يقل أو يزيد. أول اختبار كبير واقتحامي له كان في التدخل المؤثر في سوريا آخر أيلول 2015.
إلى ذلك وسواه، كانت سياسات وعلاقات ومواقف واشنطن وحلفائها تثير المزيد من التناقضات الاجتماعية داخل بلدات المتروبول الغربية المنتصرة. حصل ذلك بسبب تغوّل الاحتكارات وهجومها الشرس على مصالح الشغّيلة. أدّى ذلك إلى دفع عشرات الملايين للتشرد والبطالة، وسط تصعيد عنصري يميني ومتطرف ضد شعوب بكاملها، وضد الملوّنين والأجانب، والمسلمين خصوصاً بتهم الإغراق العرقي والتخلف والإرهاب، وصولاً إلى تطرف وجموح ترامب وبناء الجدار الفاصل مع المكسيك ومعاداة شعوب بكاملها ودعم غير مسبوق للعدو الصهيوني.
واصلت الإدارات الأميركية نفس سياسات الهيمنة والاستئثار والتفرد والإضعاف، ولو كان الهدف حليفاً: في أوروبا العجوز (خروج بريطانيا بتشجيع أميركي)، أو في دول الخليج التابعة (ثمن الحماية). وهي واصلت العمل بكل السبل بما فيها الأقذر، لإبقاء البلدان النامية خاضعة ومفكّكة وخصوصاً في الشرق الأوسط. هذه المنطقة استمرت، بالفعل، محطة أساسية لخطط واشنطن ما بعد الحرب الباردة. منها انطلقت سياسة الغزو والاحتلال، وفيها تتركز الآن سياسة التفتيت والتفكيك وتغذية النزاعات الداخلية والحروب الأهلية: في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان وتونس واليمن، وحالياً في لبنان. وذلك بالتكافل والتضامن مع العدو الصهيوني ولمصلحة هذا الأخير بالدرجة الأولى.
مواجهة الخطط والسياسات والتدخلات الأميركية تتزايد على مستوى العالم، وفي منطقتنا أيضاً. وهي تفرض توازنات وتحولات جوهرية. إنه الشكل الجديد للصراع الطبقي بأساليب وأدوات جديدة. قبل أكثر من مئة عام أضاف لينين إلى شعار ماركس «يا عمال العالم اتحدوا» و«يا أيتها الشعوب المضطهدة أيضاً». ذلك يصح الآن أكثر من أي وقت مضى!