آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » تحية وداع من القامة القانونية والفكرية والأدبية والإجتماعية “د.أحمد عمران الزاوي” إلى أبنائه قبل رحيله 

تحية وداع من القامة القانونية والفكرية والأدبية والإجتماعية “د.أحمد عمران الزاوي” إلى أبنائه قبل رحيله 

 

يعتبر العلامة الدكتور أحمد عمران )الزاوي( قامةً فكريةً وأدبيةً وقانونيةً واجتماعيةً.. ليس على صعيد محافظة طرطوس وحسب وإنما على صعيد سورية بالكامل..

فهذا العلامة الذي ولد حسب تسجيله في تسجيلات النفوس( عام 1930 وتوفي في مثل هذا اليوم من عام 2017)أعطى الكثير وقدم عصارة فكره مجتمعه ومهنته ووطنه من خلال كتابة ما يزيد عن 16 ألف صفحة صدرت جميعها ضمن كتب مميزة كماً ونوعاً ورسالة منذ عام 1993 وحتى الآن وشملت موضوعاتها كل مناحي الحياة بدءاً من القضايا الاجتماعية والتاريخية مروراً بالقضايا الوطنية والعربية..والصهيونية والعالمية وليس انتهاءً بالموضوعات الحضارية والفكرية

 

وبمناسبة الذكرى السادسة لرحيل هذه القامة والقيمة ننشر فيما يلي الرسالة التي وجهها لأبنائه قبل رحيله تحت عنوان “تحية وداع”والتي وافانا بها ابنه الاستاذ المحامي اللامع عمران احمد عمران الزاوي

 

تحية وداع

 

هذه التحية أُوجهها إليكم , وأخصها بكم ياأبنائي لأنكم أقرب الناس , وأعز ُّ عليَّ من جميع من طلعت عليه الشمس .

سئمت طولَ العمر , وانتظارَ الأجل .

تجاوزتُ هذه المرحلةَ التي جعلتْ زُهيراً بن أبي سُلمَى يسأم من طولِ الحياة ويقول:

سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ

ومن هَابَ أسبابَ المنايا ينَلْنَه

 

 

ثمانيـــنَ حولاً لاأبالَـكَ يَسأمِ

ولو نــالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّم

أنا الآن أترنح بين فكي التسعين .. سئمت مثلما سئم زهير لكنني لستُخائفا من الموت ولاأخشى قدومه متى شاء لأنه المصير المحتوم لكل حي من إنسان ونبات وحيوان وطير وجماد , ولم يختلف في جوهره أينما حل فالاختلاف يقتصر على الأسباب وصور التنفيذ .

لقد أدرك المتنبي ذلك فقال : “تعددت الأسباب والموت واحد” , ومثلما لم يبق من الذين ذهبوا غير مابقي من ذكراهم , فأنا مثل جميع من سبقني من أول الحياة إلى اليوم لن يبقى مني غير ماتتذكرونه عني .

بعد أن تزولَ أسبَابُ الحياةِ من الحي يزول جميعُ ماكان يربطه بالوجود والموجودات أي جميع ما على سطح الأرض مهما تتالت الأجيال , ولايلاحقهغير أعماله :

فــ ” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” .

و “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا” .

تساءلت بيني وبيني :

ما الذي دفع بي إلى هذا الصعب ؟

ما الذي دفع بقلمي إلى هذا المضيق ؟

فأتاني الجواب من داخلي : إنه واجب الاعتراف قبل الذهاب .

إن حديثَ كرسيِّ الاعتراف ولو لفترة يخفف وطأة الكابوس الجاثم , ويعينُالذاهبَ من الدُّنيا أن يأتيَ الله بقلب سليم .

من على الكرسي :

استعرضت بعض مامرَّ بي ومامررت به من حوادثَ خلال عمري المديد , وبالأخص منذ أن صار لدي بيت ضم الزوجة , وولد فيه الأولاد , وبالأكثر خصوصية وتأثيراً فجيعتي بموت والدتي وموت والدي بعدها , وهما وإن ذهبا راضيين عني فأنا غير راض عن نفسي لشعوري بأنه كان علي أن أبذل الأكثر في سبيلهما , ولو فعلت لنلت الأكثر من الرضا وذلك لأن إكرام الوالدين وصية من أمهات وصايا الرب .

ولأن القرآن حض في كثير من الآيات على إكرامهما والعناية بهما , وعد هذا واجبا يُثاب عليه ويعاقب من لايقوم به :

“قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ * أَلَّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا * وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا “.

“وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِإِحْسَانًا * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا” .

“وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” .

ففي الآية الأولى : جعل الله عدم الاحسان إلى والديه بمنزلة الشرك به .

وفي الآية الثانية : جعل مرتبة الاحسان اليهما أمراً قضى به الله .

وفي الثالثة : وصّى بهما لما كابداه في تربية الأولاد من صعوبات وتعب .

نعم أحببت والديَّ حباً صادقاً شاملا كاملا لكن بعد استقلالي بالبيت الذي ملأته الزوجة وأشاع فيه الأولاد الخضرة والهناء أحسست أن جبل الحب انْشَطَرَ إلى شطرين أكبرهما ما توجَّهَ إلى زوجي وأبنائي ..

ومازال حبُّهم في قلبي إلى الآن ناراً لاتخمد مع أن كلاً منهم صار صاحب بيت وزوج وأبناء وحل في الموقع الاجتماعي والعلمي الذي أهلته له مواهبه .. لكنها نارٌ كنارِ إبراهيم : برد ٌ وسلام .

ياقرَّةَ عيني …

بعضكم وبعضهم يقول : إن ماتنعمون به من رفاه وكفاية واستقرار أُسرويٍّ وماديٍّ وثقافي نشأ بفضل جهود خاصة قمت بها وحدي …

لكن كلّا : فأنا – وإن كنت وُلدتُ ونشأتُ بين الجليد – وإن كان هذا المنشأ الباردُ اليابس فرَضَ عليَّ أن أبقى سجينَ الجهود حتى بلغتُ بنفسي وبكم إلى مانحنُ فيه , فلن أنسى أنَّ جهودي ماكان لها وحدها أن تعطيَ هذه النتائجَ لو لم تقمْ إلى جانبها جهود أخرى لم تكن مساهمتها أقل من جهودي : هي جهود أمكم , ولست متجاوزا ولامبالغا إن قلت : إن تلك الجهود التي تضافرت مع جهودي كانت أكثر التصاقا بكم وكنتم أكثر حاجة إليها .

هنا – نقطة نظام يحق لها أن تقطع الكلام في أي زمان , وفي أي مكان , ودون استئذان ..

هي : إن أول المتاعب الأسرية وأشدها إرهاقا وضعها الله على عاتق الأم .

حمل وإرضاع وتنظيف وحضن رحيم ليس له مثيل في الكون دفئا وحنانا بالنسبة إلى الوليد المحضون .

صحيح أَنَّنِي صُنت بناء الأسرة وقدَّمتُ بجهودي مايحتاجه البناءُ وساكنوه من زوج وأبناء .

لكنها كانت لوحدها تضع في الوجود لبناته واحدةً واحدةً وهي أنتم .

لقد أدرَكَتْ هذه الحقيقةَ قصيدةٌ إذ قالت في بيت فيها :

 

ليس الذي صان البناء وزانه

 

 

مثلَ الذي شادَ البناءَ وأحكما

حقيقة يجب أن لاتغيب عن أي بال , فأول غذاء يغتذيهِ الجنينُ هو من دمِأمِّه , وأول مسكن له وهو في الرحم بجانب قلبها , وحين يُخرَجُ من الظلمات إلى النور يَسارُ به على طريق من أوجاعها , وحين يُمَدّدُ في حضنها انهمر من الأعلى في فمه دمُها بلون أبيض (الحليب) من ثديين أطلا عليه كما وصفهما القرآن بقوله :

“أَلـم نجعلْ له عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَينِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ “.

ثم تعقب هذه المرحلة الأولى الأساس مرحلة يستمر فيها الرضاع والتنظيف والتقميط والهدهدة مدةً لاتقل عن عامين تليها مرحلة التوجيه والإشراف التي تستغرق مدة الحضانة.

حقائق ووقائع لايعمى عنها غير أعمى البصيرة وفاقد الوجدان ..

نعم .. منذ أن ولدتم امتلكني الحبور , وكلما كبرتم كان سروري يزداد حتى أصبحتم بصري وبصيرتي في نومي ويقظتي وإيابي وذهابي وعملي وكسلي فالوقت لدي لم يعد غير الوقت الذي أستطيع فيه أن أُلبِّيَ فيه حاجاتكم الغذائية والكسائية والثقافية .

مع كل ماذكرت – وهي حقائق ووقائع عشتها واحدةً واحدةً – لن يُحجبَ عن ضميري ماتجشَّمَتْه والدتُكُم من المتاعب وهي الأقرب منكم , والمرافقة الدائمةُ في ليلكم ونهاركم , فكانت أولى المهام لديها تربيتكم على التحلي بمكارم الأخلاق وممارسة الفضائل في القول والعمل , واحترامِ مصدرها إن جاءَت من الغير أيَّاً كانَ هذا الغيرُ لأنَّها الأقْوَمُ والأَدْوَمُ والأرْضَى للَّهِ وللنَّاسِ.

انظروا إلى حبَّة القمحِ كمثال على التكوين .. مثلما بدأتم بَدَأَتْ , وبمثل المراحلِ التي مررتُم فيها مرَّتْ ..

غَابتْ في رحِمِ الأرض ثم انفَلَقَتْ عن جنين النموِّ الذي برزَ كائناً مستقِلاً تحت طبقات الثرى ثم بعد فترةٍ طفِقَ يشُقُّ برأسه الغضروفيِّ الخجولِ العاري جلاميدَ التراب والحصَى , وماأن اكتحلت عيناه بالنور حتى حَبَتْه الطبيعةُ بساقٍ قام عليها ثم كسَت السَّاقَ أوراقاً حَمَتْهُ من البرد , ثم مالبثت أن قامتْ على ساقه الغُصونُ المكلَّلةُ بالأوراق ثم بدأَ الإِزهارُ والإِثْمارُ .

هذه المراحلُ يجتازُها كلُّ مخلوق – ليس من خلاف بين المخلوقات بغير الأسماءِ والأزمنةِ والأمكنة – من الأجنة حتى الاكتنان في الأرض , فكل ولادة رسول الى الموت (كما قال الإمام عليُّ) .

ياأبنائي , يامجد روحي ..

تذكَّروا – وأنتم بذلتم وتبذلون في حدائقكم أكرم الرعاية واصدق الجهود , وتسقون أغراسكم وتشذبون أشجارها من التصرفات اليابسة – أنكم كنتم حديقتنا وأننا بذلنا فيها سقايةً ورعايةً وتشذيباً وتهذيباً مثلما بذلتم وتبذلون , وعند منابت زهوركم بذلنا أصدق التضحيات وتجرعنا أمرَّ الظروف .

ياأبنائي ..

لم يكن ماقلناه أنا وأمكم من قبيل التفاخر أو المَنِّ بل من باب التذكير ولفت الانتباه , فنحن لانُمَنِّنُ لاستيفَاءِ الدَّينِ لأن الله أغنانا عن طلب الاستيفاء لكن ماقلناه كانَ لسببين :

أولهما : إن مابذلناه كان تكليفاً من الطبيعة لم نكن نحن أولَ من وضعه ولنْنكونَ آخر واضعيه . إنه سنة الله في خلقه “ولَنْ تجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلا وَلَن تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلا ” .

وثانيهما : لأنكم كابدتم وتكابدون مثلما كابدنا وبذلتم وتبذلون مثلما بذلنا , وسوف تصلون الى ماوصلنا .

إن في العبرة التي نُقلتْ عن أحد الحكماء “غرسُوا فأَكَلنا , ونغرسُفيأكلون” تصويراً صحيحاً لما جرى ويجري , وَأكْمِلُ الحكْمَةَ – مع وافر ِاعتذاري لذلك الحكيم – فأقولُ : “ويغرسون فيأكل القادمون” لأن الحياة كانت وستبقى هكذا نهرا يتدفق منذ الأزل وسيبقى متدفقا وما مرّ منه لن يعود .

أطلب منكم في الختام أن لاتفرقوا في توزيعِ المشاعر بيننا – نحن والدَيْكُم – لأن كلّاً منا بذل تجاهكم أقصى ما يستطيعه من الاهتمام , وأقول بأمانة وصدق : إن مرَّ أحدكم بوقت من الأوقات اضطرته الظروف فيه إلى التفريق فليكن ذلك لمصلحة الأم لأن حنانها أقدمُ وأعمق

*أحمد عمران الزاوي

صباح الخميس 19 شباط 2015

(موقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المؤسسة العامة للسينما تعيد تأهيل صالات الكندي

تماشياً مع رغبة المؤسسة العامة للسينما في تقديم أفضل ما يمكن من أساليب العمل السينمائي، وتأكيداً لضرورة تأمين حالة عرض متقدمة ومتميزة لجمهورها، فإنها عملت ...