قدّمت الإدارة الأميركية الغارات التي أعقبت عملية تدمر بوصفها رداً انتقامياً مباشراً على مقتل جنود أميركيين، واستخدمت في ذلك لغة حادّة ومقصودة، هدفها تثبيت الردع السريع وطمأنة الداخل الأميركي بأن الهجوم لم يمرّ من دون ثمن. غير أن الاكتفاء بهذا التوصيف لا يصمد طويلاً عند وضعه في سياقه الأوسع، إذ سرعان ما تظهر مؤشرات توحي بأن ما جرى يتجاوز منطق الثأر الظرفي إلى محاولة إعادة ضبط قواعد الاشتباك مع تنظيم “داعش” في سوريا ما بعد سقوط النظام.
فالولايات المتحدة التي تؤكد منذ سنوات أنها مصمّمة على منع عودة “داعش” والقضاء عليه بوصفه تهديداً عابراً للحدود، لم تفصل يوماً بين الردّ على هجوم محدد واستمرار حملة طويلة الأمد. وعليه، فإن الجمع بين ضربات واسعة النطاق، والتلويح العلني بإمكانية تكرارها، واتساع رقعتها الجغرافية، يجعل من الصعب التعامل مع العملية على أنها حادثة مغلقة. التوصيف السياسي قد يكون انتقامياً، لكن السلوك الميداني يشي باستعداد لمرحلة ضغط مستمر، تتحدد معالمها وفق ما سيُقدِم عليه “داعش” لاحقاً.
وفي واشنطن، لم يقتصر المشهد على القرار العسكري وحده، بل ظهر في موازاته سقف رقابي وتشريعي أكثر وضوحاً. فقد وقّع 134 نائباً أميركياً رسالة تدعو الإدارة إلى تشديد مراقبة أداء السلطات السورية الجديدة، وربط أي مسار تخفيف للعقوبات أو توسيع للتعاون بمعايير محددة في ملفات الأمن وحقوق الإنسان ومنع عودة التنظيمات المتطرفة. والأهم أن الرسالة ذهبت صراحة إلى التحذير من أن الإخلال بهذه المعايير يجب أن يُقابَل بالعودة إلى أدوات العقوبات وإعادة تفعيلها. وبهذا المعنى، لا تبدو الغارات منفصلة عن هذا الحراك، بل جزءاً من معادلة مزدوجة تجمع بين الضغط العسكري من جهة، والضغط السياسي غير المعلن من جهة أخرى.
وينسحب هذا المنطق على مسار رفع قانون قيصر نفسه. فحتى مع القول إن إلغاء العقوبات تمّ من دون شروط إلزامية مباشرة، بقيت آليات المتابعة والتقارير الدورية حاضرة بوصفها معايير حكم على سلوك السلطة الجديدة. أي إن واشنطن اختارت الفصل بين تخفيف الضغط الاقتصادي من جهة، والإبقاء على أدوات مساءلة سياسية وأمنية من جهة أخرى، بما يمنحها قدرة دائمة على إعادة ضبط الإيقاع بحسب تطورات الميدان.
وفي السياق ذاته، مثّل قرار رفع اسم الرئيس أحمد الشرع من لوائح التصنيف دلالة خاصة. فالخطوة لا يمكن قراءتها باعتبارها تزكية شاملة أو طياً لمرحلة سابقة، بل بوصفها فتحاً لمسار تعامل رسمي مشروط، تتقدّمه التزامات واضحة في مقدمتها محاربة الكيانات والأفراد المصنّفين على قوائم الإرهاب الأممية، وعدم السماح بتحوّل الأراضي السورية إلى ملاذ آمن لهم. وهي رسالة مزدوجة تجمع بين الانفتاح الحذر والإبقاء على سقف التوقعات مرتفعاً.
وتتضح هذه المقاربة أكثر عند مقارنتها بردود الفعل الأميركية في محطات سابقة، حين استهدفت واشنطن مواقع لجماعات موالية لإيران في سوريا بعد اتهامها بالضلوع في هجمات أودت بحياة جنود أميركيين في الأردن. يومها كان الردّ موجّهاً ضد شبكات إقليمية مرتبطة بمحور سياسي وعسكري محدد، أما اليوم فالعنوان هو تنظيم “داعش” بوصفه خطراً دولياً، ما يسمح للولايات المتحدة بتوسيع هامش تحرّكها، وتسويق عملياتها ضمن إطار مكافحة الإرهاب، من دون الانجرار إلى مواجهة إقليمية مفتوحة.
في هذا السياق، يمكن قراءة الغارات الأخيرة بوصفها محاولة لتطويق “داعش” عسكرياً، وفي الوقت نفسه ضبط مسار المرحلة الانتقالية في سوريا عبر أدوات غير مباشرة. فلا إعلان عن وصاية، ولا تفويض سياسي مفتوح، بل شبكة ضغط متداخلة تقوم على الضربات، والتعاون الأمني المشروط، والمعايير الرقابية، وإمكانية العودة إلى العقوبات متى اعتُبر أن المسار ينحرف.
في المحصلة، قد لا يكون الخلاف حيال التسمية هو النقطة الأهم. فالقول إن ما جرى ردٌّ انتقامي لا يلغي أن الوقائع على الأرض، ونمط الضربات، واللغة التي تفتح الباب أمام الاستمرار، كلها عوامل تجعل قواعد الاشتباك مرشحة للتبدّل. وما سيحسم اتجاه هذا المسار ليس الخطاب الأميركي بقدر ما ستكون عليه عمليات “داعش” المحتملة في المرحلة المقبلة، وقدرة السلطات السورية الجديدة على منع الاختراقات، وحدود الصبر الأميركي إذا تكرّر التهديد. هنا فقط سيتضح إن كانت غارات ما بعد تدمر خاتمة انتقام، أم خطوة أولى في استراتيجية تُدار بهدوء ومن دون إعلان.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
