| عبد المنعم علي عيسى
شكل وصول دونالد ترامب في المرة الأولى إلى سدة السلطة في الولايات المتحدة عام 2016 بالنسبة للكثير من المحللين، الأميركيين وغيرهم، حالة قُرِئتْ على أنها مؤشر على بداية الانحدار للنموذج الأميركي الذي قدم نمطية هي الأعتى من حيث القدرة على مراكمة القوة والمال والتكنولوجيا، وكنتيجة طبيعية لما سبق نجح النموذج في إطباق هيمنته العالمية الشاملة بصورة بدا معها أن مجرد التفكير بالإفلات منها هو ضرب من الخيال، ومع الوصول تنبأ هؤلاء بأن الفعل لا يعدو أن يكون «طفرة» من الصعب تحديد الأسباب والدوافع التي قادت إلى بروزها، تماماً كما هو صعب تحديد ذهاب خلايا الجسد، في الحالة السرطانية، إلى انقسام سريع ولا متناهٍ محدثة بذلك خللاً في الجينات الذي يقود لاحقا إلى اضطراب عام في آليات عمل الأجهزة، والبعض منهم قال: إن الظاهرة هي من نوع «الترند» الذي ينمو في غفلة من الزمن دونما معرفة لأسبابه، ولا للمدة التي ستطول إليها مدة بقائه، لكنهم أضافوا: إن تجذر الحالة أمر من شأنه أن يشير حتماً إلى أن الخط البياني الراسم لصعود الحضارة الأميركية قد تخطى الذروة التي لا بد أن يليها مسار انحداري غالباً ما يتخذ طابعاً سريعاً بعكس المسار البطيء الذي كان عليه زمن الصعود.
ماذا سيقول هؤلاء الآن بعدما اكتسح ترامب منافسته كامالا هاريس بطريقة كانت أقرب لـ«كنس» كل البرامج والسياسات التي انتهجتها إدارة جو بايدن والتي كانت الأخيرة جزءاً لا يتجزأ منها، والفعل من حيث النتيجة يؤكد أن الرجل يمثل ظاهرة متجذرة في النسيج المجتمعي الأميركي، بل إنها جاءت من صلب واقع أميركي مأزوم بفعل عوامل عدة من نوع الحمولات المطبقة داخلياً على الاقتصاد الذي بات يهتز على وقع المنافسة الصينية التي راحت تغذ خطاها سريعا مهددة بكسر احتكار هذا الأخير للمرتبة الأولى التي ما انفك يتربع على عرشها منذ نحو ثمانية عقود، ولذا فقد كان شعار «أميركا أولاً»، الذي أطلقه منذ حملته لانتخابات 2016 وظل مواظباً عليه في حملة انتخابات 2024، تعبيراً عن نزعة انكفائية نحو الداخل تبدو لازمة لترتيب البيت بعيداً عن الحمولات الخارجية التي باتت تهدد هذا الأخير بـ«كركبة» أغراضه، والفعل يتضاعف بمرور الوقت، ولعل التنظيرات التي تقول: إن ترامب لا يمثل أكثر من رأس جبل الجليد لتيار شعبوي من شأنه أن ينحدر بالمجتمعات، وقيمها وأفكارها، إلى مفاهيم طارئة تنذر بانحدار حضاري، قد لا تكون كافية، على الرغم من واقعيتها، لرصد المشهد، فواقع الأمر يشير إلى أن مؤسسات «الدولة العميقة» باتت عبئاً ثقيلاً على محاور الاقتصاد والإدارة والسياسة، وبالتالي معيقة لتطوير المجتمع والدولة في آن، ومصدراً أساسياً لتراجع الدور الأميركي الأمر الذي يمكن تلمسه بقوة عبر تخبط السياسات الأميركية إبان مواجهتها للأزمات الخارجية.
«ترامب الثاني» قد يكون أقرب لمشروع انقلابي على «الدولة العميقة» الأميركية، والمشروع بالمطلق كانت ملامحه واضحة إبان ولايته الأولى 2016 – 2020 وإن لم تكتمل، ومن المرجح لـ«المنازلة» بين الطرفين أن تبدأ في أعقاب تسلم الأخير لمهامه يوم الـ20 من كانون ثاني المقبل، لتصل سريعاً إلى حال من «الكباش» السريع بفعل ضيق الوقت الذي شعر به ترامب خلال سنوات حكمه التي وصفها بـ«القصيرة وغير الكافية لإنجاز مشروع كبير» كمشروعه، الذي شرحه فقال عنه أنه يقوم على «تحرير الشعب الأميركي من القوى التي تمسك بخناقه»، أما حال «الكباش» فهي ستنجم عن شبه التوازن ما بين القوتين المتصارعتين، فإذا ما كان ترامب، وحزبه، فازا بالرئاسة ومعها الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، فإن «الدولة العميقة» لن ترفع الراية البيضاء وفي حوزتها 67 مليون ناخب صوتوا لها، والرقم الأخير الذي يشير إلى الحصيلة التي جمعتها المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الأخيرة يشير حتما إلى من صوتوا للأولى إذ لطالما كانت الحالتان متماهيتين تماماً.
في مطلق الأحوال كان نجاح ترامب الباهر، والذي عاكس فيه أغلبية استطلاعات الرأي التي كانت ترجح هزيمته أو تشكك فيها على أقل تقدير، جاء على خلفية تقمصه لآلام الملايين من الأميركيين الذين سحقتهم برامج الديمقراطيين الاقتصادية، ومن ثم تقديم نفسه «درعاً» واقيةً لهؤلاء في مواجهة حملات الهجرة غير الشرعية القادمة عبر حدود البلاد الجنوبية مع المكسيك، وفي أتونهما نجح في تصوير نفسه «ضحية» لتلك «الدولة العميقة» التي جهدت ليل نهار للنيل منه شخصياً وقضائياً وسياسياً، لكن الأهم هو أنه أقنع هؤلاء، جمهوره، في أن الأخيرة تريد النيل منه لأنه عازم على «تحريرهم» من قيودها.
من المؤكد أن الولايات المتحدة ستشهد «معركة» حامية في غضون السنوات الأربع المقبلة، ما يجعل من هذه الأخيرة مرحلة قد تكون هي الأهم في التاريخ الأميركي، وما ستخلص إليه نتائجها سوف يكون محدداً لمسار الإمبراطورية التي باتت تتناوشها عوامل ضعف داخلية شديدة الوضوح بدرجة باتت تسمح للعديدين، في الخارج، التفكير بـ«إراحتها» من تلك الأعباء التي أنهكت جسدها، وروحها، بدرجة بدت فيها وكأن ذاتها الجمعية هي من يطلب ذلك.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز١_الوطن