ساري موسى
فاز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية إذاً. إنَّها الديموقراطية! الشعب الأميركي اختار الرجل الأبيض الأشقر الصَّلِف النحاسيَّ الوجه رئيساً له، وهذا ليس اختياراً اعتباطيَّاً، بل جاء بعد تجربةٍ سابقة. يمكن أن نقول عن هذا الاختيار إنَّه «أميركيٌّ» جداً، لواحدٍ من روَّاد الحلم الأميركي. ملياردير يعجز هو نفسه عن إحصاء أملاكه، يستطيع شراء كلَّ شيءٍ تقريباً، بما في ذلك سكوت القضاء والإعلام عن فضائحه القانونية والأخلاقية، كأخذه وثائق رسمية إلى بيته بعد انتهاء ولايته الأولى كأنَّها أوراقٌ خاصَّة، وتهديده باندلاع حرب أهليَّة في حال خسارته للانتخابات، وقد سبق أن أجرى أنصاره بروفة عنها قبل أربع سنوات. كما أنَّه بطلٌ حقيقيّ، أي بطلٌ أميركيّ، بطل سينمائيّ، انتصر على الموت الذي لم يمسَّه سوى بجرحٍ في أذنه، وتابع «القتال»، كما طلب من مناصريه وهو ينزل عن المنصَّة مجروحاً ونازفاً.
اختيارات ترامب لأركان حكمه «أميركيَّة» بدورها، بل يمكن أن نعتبرها خيارات «ترامبيَّة»، لا يمكن لغيره أن يتَّخذها: إيلون ماسك المابعد تكنولوجي لمعالجة البيروقراطية وزيادة الكفاءة الحكومية. وزير صحة معارض للقاحات، ومن ضمنها اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، التي استمات ترامب نفسه لشرائها من ألمانيا بمبلغ ضخم (لقاح «فايزر»). معارضٌ لحلِّ الدولتين سفيراً لدى كيان الاحتلال. مقاولٌ مبعوثاً إلى الشرق الأوسط، في زمن التدمير والهدم الممنهجين، تمهيداً لإعادة إعماره وفقاً للمخططات الأميركية الإسرائيلية. وأخيراً وليس آخرَ، ضابطٌ سابقٌ شارك في غزو العراق، ومقدِّم برامج حالي في قناة «فوكس نيوز»، وزيراً للدفاع!
يبدو بيت هغسيث في الصور والفيديوهات التي انتشرت له بعد ترشيح الرئيس المنتخب له، رجلاً وسيماً، يصلح لأن يكون عارض أزياءٍ أو ممثلاً هوليودياً، أو يمكن له أن يستمرَّ في مهنته كمقدِّم برامج ويحقق أرقام متابعة جيدة، خصوصاً أنَّ هذه المهنة، في الولايات المتحدة تحديداً، فيها شيءٌ غيرُ قليلٍ من الاستعراض والتمثيل. لكن لن ندع الشكل أو المظاهر تقف في طريق تقييمنا للرجل، وإن كانت النماذج التي دخلت عالم السياسة قادمةً من مهنة الإعلام سيئة بما فيه الكفاية، في مختلف أنحاء العالم. عمليَّاً، لا يمكن اعتبار الضابط السابق، الصغير السنِّ (44 عاماً) والمتدنِّي الرتبة، ذا خبرةٍ عسكرية. بالتأكيد هناك المئات ممَّن لا يزالون على رأس أعمالهم الحربيَّة يستحقون المنصب أكثر منه.
ما ركَّز عليه الإعلام العربي في شخصيَّة هغسيث هي الأوشام التي تغطِّي جسده، وتحديداً وشم السيف ودلالاته المرتبطة بآيةٍ إنجيليَّة. ليست هذه الأوشام تفصيلاً بالطبع، خصوصاً أنَّها من الكثرة إذ تُحِيل ذاكرتنا إلى عُتاة المجرمين، الذين نشاهدهم في الأفلام والوثائقيَّات. فتلك النقوش الدائمة على جلد الإنسان، تعكس قناعاته العميقة والثابتة، بالطريقة نفسها التي تعكس بها اختيارات ترامب لعهده الثاني قناعاته، التي يجب علينا أن ننتظر بضعة أشهرٍ لنرى إن كان سيغيِّر وجوهها كما فعل بعدد كبير من شخصيات طاقم عهده الأوَّل؛ فحتى الوشوم أصبحت قابلةً للمحو، لكنَّ ذلك لا يتمُّ إلا بوشمِ وشمٍ آخر فوقها، له لون الجلد ذاته.
على جسد هغسيث، الذي يظهر نصفه العلويُّ عارياً في بعض الصور ومقاطع الفيديو، نرى التالي: صلبان على الصدر، كتاباتٌ عبريَّة ولاتينيَّة ذات دلالات دينيَّة وحربيَّة، علمٌ أميركيّ، بندقيَّةٌ حربيَّة، وسيفٌ أحمر مُسلَطٌ إلى الأعلى، تمَّ إرجاعه إلى الآية الـ34 من الإصحاح العاشر من إنجيل «متى»، التي تقول: «لا تظنُّوا أنِّي جئتُ لألقي سلاماً على الأرض. ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً».
دلاليَّاً، يمكن اعتبار الأوشام رسالةً إلى الخارج تنقل ما يعتمل في الداخل. من وجهة نظر بسيطة، تبدو هذه الرسوم إشارةً إلى قوةٍ ما، أو حاجةً إلى إبراز قوةٍ ما، أو رغبةً في ذلك. لكنَّها في الواقع قد تكون دليلاً على الضعف، ضعف الإيمان بما يشمه المرء وحاجة إلى تذكير نفسه به، أو قصور الممارسة وحدها عن إظهار ذلك الإيمان.
تاريخياً، وفي الجانب العسكريِّ من التاريخ تحديداً، كان للوشوم دورٌ في الحروب، وسبق أن أوصلت رسائل فجَّرت حروباً وثورات. نذكر كمثالٍ على ذلك القصة التي أوردتها الباحثة الإسبانية إيريني باييخو، المتخصِّصة في التاريخ القديم، في كتابها «اختراع الكتب» (دار الآداب ــــ ترجمة مارك جمال)، إذ أراد قائد أثيني أن يحرِّض على تفجير ثورة في بلاد فارس. وكي لا تنكشف مؤامرته، فكَّر في إيجاد فكرة بارعة ينقل عبرها رسالته من دون أن تنكشف، إلى أن توصَّل إليها أخيراً: «حلق رأس عبده الأشدّ وفاءً، ثمَّ وشم رسالةً على فروة رأسه، وظلَّ ينتظر حتى ينمو شعره من جديد ». بعدما وصل إلى وجهته، حُلِق شعر رأس العبد مرَّةً أخرى، وقُرِئت الرسالة وعُمِلَ بها.
ركَّز الإعلام العربي على الأوشام التي تغطِّي جسده، وتحديداً وشم السيف ودلالاته المرتبطة بآيةٍ إنجيليَّة
أما في ما يختصُّ بالآية من إنجيل «متى»، فإنَّ كتاب «التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس» (ترجمة الأب ميشال نجم ـــ منشورات جامعة البلمند) يطرح في تفسيرها السؤال التالي: «كيف يتطلَّب السلام سيفاً؟». ويستعين للإجابة عنه بمجموعة من التفسيرات، أوَّلها للقديس يوحنا الذهبي الفم، الذي يقول: «كيف أمرهم الرب بأن يلقوا السلام على كلِّ بيت يدخلونه؟ وكيف قالت الملائكة: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام؟ وكيف أتى الأنبياء جميعاً ليبشِّروا؟ فهذا هو السلام حقاً: يقضي بعزل العليل وفرز المتمرِّد. فتتحد السماء بالأرض. يحفظ الطبيب السليم الصحيح من الجسد ببتر الجزء المصاب بالمرض العُضال». المسيحية الصهيونية التي يمثِّلها هغسيث وأمثاله، هي بالنسبة إلى المسيحية الحقَّة والمستقيمة، أي بالنسبة إلى المسيحية التي حافظت على أصالتها وتقاليدها في بلادنا حيث نشأت، ليست إلَّا اعتلالاً وسقماً، بل تمرُّداً وهرطقاتٍ لا تمتُّ إلى جوهر المسيحيَّة بصلة، إذ إنَّها تتبنَّى روح العهد القديم كما يتبنّاها اليهود، ولا تفسِّره على ضوء العهد الجديد. كأنَّ المسيح لم يأتِ، كأنَّ الذي تنتظره وتهيِّئ له هو «مسيَّا» اليهود! ثم إنَّ في الإشارة إلى الجسد في تفسير الذهبي الفم، دلالة على الداخل، أي على الجماعة نفسها، لا على الخارج الذي يعني الآخرين.
المقصود بالآية التي وشم هغسيث رسمها على جسده، وبالسيف العمودي الذي للفصل والقِسمة، لا الأفقي الذي للطعن والقتل، نقرأه في الآيتين التاليتين لها، فعادةً ما تُفسَّر الآيات الإنجيلية تفسيراً ناقصاً أو خطأً عندما تُقتطع من سياقها: «فإنِّي جئتُ لأفرِّق الإنسان ضدَّ أبيه، والابنة ضدَّ أمِّها، والكنَّة ضدَّ حماتها. وأعداءُ الإنسان أهل بيته». كما أنَّ عدداً من التفسيرات الآبائيَّة، تُشير إلى أنّ السيف في الكتاب المقدَّس يرمز إلى كلمة الله، ومن ذلك الآية الواردة في إنجيل لوقا (38:22)، التي نقرأ فيها محادثةً جرت عشيَّة الصلب: «فقالوا: يا ربُّ، هوذا هنا سيفان، فقال لهم: يكفي!». بالطبع لا يكفي السيفان لشيءٍ لو كان القصد منهما شنُّ حرب، لكن هناك إشكالٌ في الترجمة، فالمقصود بكلمة يسوع «كُفُّوا عن ذلك»، لأنَّ التلاميذ فهموا قصده بشكل خطأ، وظنُّوا أنَّه يقصد السيف الماديَّ الذي ضرب به بطرس أحد الذين قدموا لإلقاء القبض على يسوع، فأمره يسوع قائلاً: «اجعل سيفك في الغمد» (يوحنا 11:18). كما أنَّ هناك دلالة أخرى على الرمزيَّة الكتابيَّة للسيف، نقرأها في رؤيا يوحنا اللاهوتي (15:19)، التي تقول: «ومن فمه يخرج سيف ماضٍ لكي يضرب به الأمم ».
الخطورة في تبنِّي المقولات الدينية المسيحية في المجال العام هو تفسيرها من وجهة نظر فئوية، توراتيَّة، تمثِّل «الشعب المختار»، الذي خرج منه المسيح متوجِّهاً إلى «جميع الأمم »، وموجِّهاً تلاميذه إلى ذلك وفقاً لروح «الإيمان العامل بالمحبَّة» (رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية 6:5)، حيث القريب هو من يعامل الآخرين برحمة (لوقا 37:10).
في النهاية، لا يسعنا إلَّا أن نضمَّ صوتنا إلى الصوت الصارخ للنبي داود، الذي قال في الآية 30 من مزموره الـ68: «شتِّت يا ربُّ الشعوب الذين يُسَرُّون بالقتال».
سيرياهوم نيوز١_الاخبار