لم يكن اللقاء الذي استمر 32 دقيقة بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، بوساطة سعودية، مجرّد تعبير عن منح واشنطن «شرعية» للأخير، بل جاء بمثابة تدشين رسمي لمرحلة «سوريا الجديدة»، والتي ستتغير فيها المفاهيم التي عاشتها على مدار عقود طويلة، سواء على صعيد خريطة الصراع الإقليمي، بما فيها الصراع الأبرز مع الاحتلال الإسرائيلي، أو على صعيد نمو تحالفات جديدة، يلعب فيها الاقتصاد الدور الأبرز. وحرص ترامب على ربط اللقاء – الذي جرى التحضير له لبضعة أسابيع تخللها تقديم الولايات المتحدة جملة من الشروط التي لا تزال تتمسك بها، وسبقه إعلان ترامب نجاح السعودية وتركيا في إقناعه برفع العقوبات المفروضة على سوريا -، بشكل مباشر، بالتغييرات التي تشهدها المنطقة، بما فيها موجة التطبيع الجديدة مع إسرائيل، والتي يأمل أن تنضم إليها السعودية وسوريا.
وفي تأكيد أميركي على ترسيخ معالم التوازن الجديد، شارك في اللقاء، الذي حضره الشرع وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عبر الاتصال المرئي. كما أحال ترامب البحث في تفاصيل الاتفاقية ومسارات رفع العقوبات، إلى لقاء على مستوى وزراء الخارجية، تستضيفه أنطاليا التركية اليوم، بمشاركة وزير الخارجية التركي حاقان فيدان، ونظيريه، الأميركي ماركو روبيو، والسوري أسعد الشيباني، وذلك على هامش اجتماع لوزراء خارجية دول «الناتو».
وحافظ ترامب على النفوذ التركي في سوريا، والذي قال مراراً إنه يباركه، كما منح السعودية يداً طولى أيضاً، في وقت تنتظر فيه كل من الرياض وأنقرة استثمار الانقلاب في المشهد السوري، عبر سلسلة طويلة من المشاريع، بعضها يرتبط بطرق التبادل التجاري البرية، وبعضها يتعلق بخريطة الطاقة وقنوات تصديرها، في ظل اهتمام تركيا المتزايد بلعب دور كبير في توزيعها، وإمكانية استثمار السعودية، ومعها قطر، هذه الخريطة في تنويع قنوات التصدير.
وهكذا، منح الرئيس الأميركي، الذي جاء إلى دول الخليج للتوقيع على جملة من الاتفاقيات الاقتصادية بمبالغ غير مسبوقة، الرياض، النفوذ الذي كانت تطمح إليه في الملف السوري، عبر إعلان رفع العقوبات من أرضها، كما لم يتجاهل الدور التركي، والمصالح الإسرائيلية في الملف السوري، والتي تلعب الإمارات دوراً مهماً بخصوصها، عبر استضافتها لقاءات بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، لتوسيع قنوات التواصل، وسط حديث مستمر عن إمكانية توقيع دمشق، بإدارتها الجديدة، «اتفاقية سلام» مع إسرائيل، تنهي عقود الصراع الطويلة.
ويأتي هذا من دون أي توضيحات حول مصير الأراضي السورية المحتلة، سواء الجولان الذي منحه ترامب لتل أبيب، أو الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد سقوط نظام بشار الأسد، والتي تشمل مناطق واسعة على الشريط العازل، بما فيها قمة جبل الشيخ، ومنابع المياه العذبة.
وبالتوازي، تعمل الإدارة السورية الجديدة على إزالة بعض العثرات من طريق خروج القوات الأميركية، والتي يتطلّب خروجها المضي قدماً في اتفاقية ضم «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) إلى هيكلية وزارة الدفاع الناشئة، وسط اعتراضات من «قسد» على بعض الجزئيات في «الإعلان الدستوري». ومن المنتظر الإعلان عن تعديلات في ذلك الإعلان بشكل تتوافق معه التوجهات الكردية التي تسعى للحفاظ، ما أمكن، على مناطق إدارة ذاتية. ومن شأن ذلك أن يساهم في توضيح معالم الخريطة السورية، التي تحكمها حكومة مركزية، تشرف على منطقتَي إدارة شبه ذاتية: الأولى في السويداء، والثانية في مناطق سيطرة «قسد»، في ما يمكن اعتباره هكيلية فضفاضة، لا هي فدرالية، ولا هي مركزية.
ليست ثمة أي توضيحات حول مصير الأراضي السورية المحتلة
وفي غضون ذلك، كشفت المتحدّثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن ترامب ناقش مع الشرع، خلال اللقاء، خمس قضايا رئيسية هي: التوقيع على اتفاقيات «أبراهام» للتطبيع مع إسرائيل والتي كانت انضمت إليها الإمارات والبحرين والمغرب، بوساطة أميركية، والطلب إلى جميع «الإرهابيين الأجانب» مغادرة سوريا، وترحيل «الإرهابيين» الفلسطينيين، ومساعدة الولايات المتحدة على منع عودة تنظيم «داعش»، وتحمّل مسؤولية مراكز احتجاز عناصر التنظيم في شمال شرق سوريا.
ويأتي الحديث الأميركي عن «مكافحة الإرهاب»، وإدارة سجون تنظيم «داعش»، على ما يبدو، كمحاولة أميركية أخيرة للتخلص من عبء التدخل العسكري في سوريا، بعد ضمان استمرار نفوذها السياسي. وهذه النقطة تحديداً، استعدّت لها تركيا جيداً عبر الدفع نحو تشكيل محور يضم إلى جانب سوريا، العراق والأردن، تحت مسمى «محاربة الإرهاب»، وهي الذريعة التي تستعملها أنقرة لضمان مدّ نفوذها العسكري في ما تبقّى من الأراضي السورية، وسط رفض إسرائيلي مستمر، من الممكن أن يتغيّر في ظل المفاوضات التركية – الإسرائيلية التي تستضيفها آذربيحان، إذ إن هذه المفاوضات قد تفضي إلى الاتفاق على آلية مقبولة من الطرفين، تضمن لهما نفوذهما، خصوصاً بعد المضي قدماً في خطوات التطبيع التي ترغب فيها أميركا، بين الشرع وإسرائيل.
وتظهر نظرة على الملفات الأخرى التي تمّت مناقشتها، أن الشرع قد قام بتحقيق معظمها، خصوصاً إبعاد الفصائل الفلسطينية، بعد حملة التضييق المستمرة على ما تبقّى من ممثليها. أما الملف الوحيد الذي ما زال مثيراً للجدل، فهو إصرار الإدارة الأميركية على إبعاد المسلحين الأجانب وطردهم من سوريا، وهي نقطة ما زال الشرع يحاول تجاوزها، في ظل رغبته في منح المقاتلين الجنسية السورية، وتقديم ضمانات باقتصار نشاطهم على الأراضي السورية، بعد ضمّهم إلى هيكلية وزارة الدفاع الناشئة.
وعلى صعيد العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، والتي أعلن ترامب عزمه رفعها، ثمة غموض كبير في الآلية التي سيتم اتّباعها، ومدى قدرة الرئيس الأميركي على الوفاء بوعده، في ظل وجود عقوبات تم سنّها بموجب تشريعات، وهي تحتاج إلى موافقة المشرّعين على رفعها، الأمر الذي يجعل المسألة تسير عبر مسارَين اثنين: الأول يتعلق بالعقوبات التي تم إصدارها بموجب قرار رئاسي، ويمكن لترامب رفعها بشكل مباشر، والثاني المتعلق بالقوانين، ويمكن الالتفاف عليها عبر منح تراخيص رئاسية، على غرار ما فعلته وزارة الخزانة في شهر كانون الثاني الماضي، عندما سمحت بالتعاملات في الطاقة والحوالات المالية.
ويفسّر هذا الأمر استعمال الرئيس الأميركي مصطلح «cessation» (وقف) وليس «removal» (إزالة)، عند إعلانه رفع العقوبات التي تفرضها بلاده على سوريا، والتي تعود جذورها إلى عام 1979، ويرتبط بعضها بنظام بشار الأسد، ويحتاج إلى مراجعة قانونية طويلة.
وبشكل عام، يمنح رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، دفعة كبيرة لعمليات إعادة الإعمار، في ظل وجود صندوق أممي تم تجهيزه مسبقاً لهذا الغرض، يعتمد بشكل أساسي على المنح الخليجية. كذلك، تخفّف الخطوة، إلى حدٍّ ما، من الأعباء المتراكمة التي عاشها السوريون على مدار السنوات الماضية، وتتّسق مع توجهات الحكومة السورية الاقتصادية الانفتاحية، عبر الانضمام إلى نظام «سويفت» وتسهيل العمليات البنكية، والسماح للشركات الراغبة في الاستثمار في سوريا بالدخول إلى هذا السوق.
لكن من المبكر مناقشة هذه النقاط قبل تحديد الآلية التي سيتّبعها ترامب في وقف العقوبات، والمآلات التي ستذهب إليها الأوضاع الميدانية التي لا تزال غير مستقرة سواء في المنطقة الوسطى، أو الساحل السوري، في ظل استمرار حالة الانفلات الفصائلية، وعمليات القتل الطائفية التي ينفّذها متشددون، إلى جانب عدم التوصل إلى اتفاق نهائي حول السويداء ومناطق سيطرة الأكراد (قسد).
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-الأخبار