خضر خروبي
لم ينتظر العهد الأميركي الجديد طويلاً حتى يشرع في تنفيذ برنامجه الداخلي، بما يحمله من مفاعيل انقلابية على سياسات الإدارة السابقة، وخصوصاً على مستوى ما يسمّيه «الإصلاحات» الإدارية والاجتماعية. وتشهد على ذلك سلسلة القرارات التنفيذية التي وقعها الجمهوري العائد إلى البيت الأبيض خلال الساعات الأولى لتنصيبه، والتي عزّرها بقرارات إضافية خلال الأيام القليلة الماضية.
ماذا في جديد «الأجندة الاجتماعية» لترامب؟
شهد الأسبوع الجاري، مع استكمال مجلس الشيوخ التعيينات في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وآخرها المصادقة على تعيين روبرت إف. كينيدي جونيور وزيراً للصحة – بعدما نجح الأخير في إيجاد تقاطعات مع الجمهوريين حول رؤيته لـ«جعل أميركا صحية من جديد» -، إصدار وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية إرشادات ترمي إلى تحديث تعريفاتها الرسمية لمصطلحات مثل الجنس والأنثى والذكر، بما ينسجم مع «السياسة الجنسانية» العامة للحكم الأميركي الجديد.
وسبق أن أقر هذا الأخير وجود «جنسين فقط» يُحددان عند الولادة، إضافة إلى أوامر تنفيذية أخرى شملت تقييد إجراءات المتحولين جنسياً بالنسبة إلى الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماً، والطلب إلى الوكالات الاتحادية حذف أي إشارة إلى «أيديولوجية النوع» في العقود، وتوصيفات الوظائف، وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى وقع تصاعد تأثير التيارات الدينية المحافظة في الأجندة الاجتماعية لإدارة ترامب، ومنها نفوذ باولا وايت كاين، أحد مؤسسي ما يسمّى «كنيسة بلا جدران»، والمعروفة كواعظة ومستشارة روحية، والتي أصبحت عام 2017 أول امرأة تقدم صلاة افتتاحية في حفل تنصيب لرئيس أميركي، قبل أن تنتقل حالياً إلى ترؤس ما يُسمّى «مكتب الإيمان» في البيت الأبيض، سلّط وزير الصحّة الأميركي، المعيّن حديثاً، الضوء على الخطوط العامة لتلك السياسة، متعهداً بالعمل على ما سمّاه «إعادة الفطرة السليمة والحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الاتحادية».
كما أكد كينيدي أنّ «سياسة الإدارة السابقة التي كانت تحاول إدخال أيديولوجية النوع الاجتماعي في كل جانب من جوانب الحياة العامة قد انتهت». وبالفعل، بدأ ينسحب هذا التوجه على أسلوب عمل سائر الوكالات الاتحادية الأميركية؛ إذ أصدر «مكتب إدارة الموظفين الأميركيين»، الأربعاء الماضي، توجيهات تدعو جميع الوكالات الفيدرالية إلى مراجعة جميع توصيفات الوظائف، ووضع أي موظف «يتضمن وصف وظيفته غرساً أو تعزيزاً لأيديولوجية النوع» في إجازة، فيما أعلنت وزارة الخارجية وقف إصدار جوازات السفر التي تحمل الجنس «إكس» للأشخاص الذين يُصنفون أنفسهم ذوي هوية جنسية «غير ثنائية»، وهي جوازات سُمح بإصدارها في عهد جو بايدن.
إقالات جماعية في الإدارة والقضاء
وفي موازاة توجّه إدارة ترامب إلى تأسيس إدارات اتحادية جديدة، على غرار «المجلس الوطني للهيمنة في مجال الطاقة» والذي أُنشئ بغية تطوير إنتاج الكهرباء، أعلن الرئيس الجمهوري نيته إغلاق إدارات أخرى، أهمها وزارة التعليم الاتحادية، والتي سبق له أن سعى إلى إلغائها خلال ولايته الأولى نزولاً عند رغبة بعض المراكز البحثية المحافظة، والمقدرة نفقاتها بنحو 251 مليار دولار، وذلك ضمن خطة الملياردير إيلون ماسك – المعين على رأس «وزارة الكفاءة الحكومية» لخفض الإنفاق العام، القابع تحت عجز قدره 1.8 تريليون دولار. ويرافق ذلك العمل على تقليص حجم الجهاز الاتحادي الأميركي، عبر أسلوب يقوم على تخيير الموظفين بين تقديم استقالاتهم طوعاً مقابل حصولهم على أجور 8 أشهر، أو مواجهة الطرد مستقبلاً.
وضمن توجه يعكس جدية إدارة ترامب في القضاء على ما وصفه الأخير بـ«الدولة العميقة»، تم عزل كبار المسؤولين في «إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية»، المعنية بالإشراف على السجلات الحكومية وترؤس المحفوظات الوطنية (وهي إدارة دائماً ما انتقدها ترامب على خلفية تعاونها مع وزارة العدل في قضية اتهامه بالاحتفاظ بوثائق سرية في منزله). كما وجّهت الإدارة الجديدة إخطارات إلى السفارات الأميركية حول العالم بالبدء في التخطيط لخفض عدد الموظفين، ومن بينهم عشرات المتعاقدين في «مكتب الديموقراطية وحقوق الإنسان» في وزارة الخارجية، مع وجود احتمالات لتسريح المزيد من موظفي الوزارة المذكورة في مكاتب أخرى، وفقاً لما كشفته وكالة «رويترز».
وبالفعل، أكد المتحدث باسم مكتب إدارة الموظفين الأميركي أن نحو 75 ألف موظف اتحادي وافقوا طوعاً على برنامج وضعته إدارة ترامب لتقليص حجم القوة العاملة في الوكالات الفدرالية المدنية، والمقدر تعدادها بنحو 2.3 مليون شخص. كما أكدت مصادر نقابية وعمالية، لـ«رويترز»، بدء فصل مئات الموظفين في وكالات اتحادية عدة، كاشفة أن إجراءات الفصل الطوعي، والتي قضت بتشجيع الموظفين على الاستقالة قبل السادس من الجاري، مع حصولهم على رواتبهم حتى نهاية أيلول المقبل، لم تستثنِ مؤسسات حيوية كـ«جهاز حماية المستهلك»، ووزارات الداخلية والطاقة وشؤون قدامى المحاربين، بل وحتى «إدارة الخدمات العامة الأميركية» المولجة مهمات الإشراف على غالبية العقود الحكومية وإدارة الممتلكات الاتحادية. ولفتت المصادر نفسها إلى أن تدابير ما يوصف بـ«حملة التطهير الإداري»، طالت في معظم الأحيان موظفين لا يزالون في عامهم الأول في العمل، ويتمتعون بمستوى أقل من الأمان الوظيفي، علماً أن هؤلاء تتجاوز أعدادهم 200 ألف شخص.
17 قاضياً، من بينهم جمهوريون، أصدروا أحكاماً بوقف تنفيذ عدد من قرارات ترامب
واكتسبت خطة «الفصل الطوعي» للموظفين، والتي ترافقت مع إقالة ترامب جميع المدعين العامين المعينين من قِبل سلفه، وفقاً لتقليد قضائي معروف في الولايات المتحدة، زخماً إضافياً بعدما تراجع القاضي الفدرالي في ولاية ماساتشوستس، جورج أوتول، عن قرار أصدره الأسبوع الماضي علّق بموجبه مؤقتاً العمل بالخطة المذكورة، بناء على طعن تقدّمت به نقابة موظفي القوة العاملة المدنية، معلّلاً قراره الجديد بعدم وجود صفة قانونية للجهة المدعية. واستدعى قرار أوتول استنكار أكبر نقابة لموظفي الخدمة المدنية الفدرالية، إذ رأت أن القرار «يمثّل خطوة إلى الوراء في النضال من أجل الكرامة والعدالة لموظفي الخدمة المدنية»، فيما رحّب البيت الأبيض بما وضعه في خانة «الانتصار الأول في سلسلة طويلة من الانتصارات القانونية للرئيس».
ولم يقتصر النقد لخطط ترامب على الجهات النقابية، وجهات حقوقية ترى أن تفريغ عدد من إدارات الخدمات الأساسية الممولة من دافعي الضرائب، وخاصة في مجال الرعاية الصحية، ودعم المحاربين القدامى، والنفقات العسكرية والدفاعية، ينطوي على تغليب مصالح الشركات ورجال الأعمال المقربين من البيت الأبيض على حساب مصالح عموم الأميركيين. لا بل تعدتها إلى المعسكر الديموقراطي، حيث قال وزير العمل الأميركي السابق، روبرت رايش، لصحيفة «ذا غارديان»، إن ترامب هو «أكثر رئيس مخالف للقانون في تاريخ الولايات المتحدة»، فيما دان السيناتو الديموقراطي، تيم كين، إيغال الإدارة الجديدة في تفكيك المؤسسات الفيدرالية، وخفض ميزانياتها، لافتاً إلى وجود «قانون التمكين» الذي يحظر على الرئيس إدخال تعديلات جوهرية في ما يتعلق بمخصّصات مالية يقرّها الكونغرس.
وأعرب كين، في مقابلة مع «فوكس نيوز»، عن رفضه إغلاق وزارة التعليم، وتقليص عدد موظفي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، مشيراً إلى أن ذلك «إغلاق غير مصرح به من قبل الكونغرس، ومخالف للقانون». وأردف أن خصوم ترامب «سوف يذهبون إلى محاكم الاستئناف»، لافتاً إلى أنّ المحاكم الأميركية حالياً «تنظر طعوناً في الكثير من الإجراءات التنفيذية المتطرفة للرئيس والتي تؤذي الناس».
وبهدف الوقوف في وجه إجراءات ترامب، أقام مدعون عامون من 14 ولاية، دعوى قضائية اتحادية في واشنطن، دفعوا فيها بـ«عدم قانونية» تعيين ترامب لماسك كمشرف على وزارة الكفاءة الحكومية، مؤكدين رفضهم منح الأخير «سلطة قانونية بلا قيود» من دون تفويض من الكونغرس. وبموجب بيان صادر عن المدعين الـ14، فإن تعيين ماسك «يعد تجاهلاً للتهديد الذي يشكله على الأمة»، لا سيما أنّه «لا وجود لإشراف هادف على أنشطة» الملياردير في وظيفته الحكومية. ومن جهته، قال المدّعي العام لولاية نيو مكسيكو، راؤول توريز، وهو أحد أطراف الدعوى، إنّ ترامب يظهر «ضعفاً» حيال الرئيس التنفيذي لشركات «تسلا» و«إكس» و«سبايس إكس»، بدلاً من تعزيز أجندة عهده عبر الكونغرس، الخاضع لسيطرة الجمهوريين.
وانطلاقاً من هذه الخلفية، أشارت وكالة «بلومبيرغ» إلى وجود «عقبات قانونية» تعترض طريق تنفيذ ترامب لأجندته الرئاسية، سواء في مجال الهجرة وسياسات التنوّع، أو على صعيد تقليص حجم البيروقراطية والنفقات الحكومية، كاشفة عن وصول عدد الدعاوى المرفوعة ضد إدارته في المحاكم الأميركية إلى 74. ولفتت الوكالة الأميركية إلى أنّ 17 قاضياً، من بينهم جمهوريون، أصدروا أحكاماً بوقف تنفيذ عدد من قرارات ترامب.
أخبار سوريا الوطن١_الأخبار