خليل الحاج علي
يستحضر «ترانزيت طرابلس» (إخراج كارولين حاتم)، المأساة التي حلّت على مدننا من موت وفظاعة نتيجة الحرب. اقتُبس العرض عن رواية «ترانزيت» للكاتبة الألمانية آنا سيغرز، ليكون متطابقاً مع واقع الهجرة من بلاد تحكمها الديكتاتورية، والظلم، والتعسف، واللجوء إلى بلاد لا تقلّ بؤساً وويلات وفواجع. تزامن العرض مع ذكرى الثورة المجهضة في سوريا، التي استحالت حرباً أهلية والغليان السياسي في المنطقة، وازدياد حملات التحريض والعنصرية ضد السوريات والسوريين، ما يعطيه زخماً عاطفياً وسياسياً.في الفضاء المسرحي، تتعدّد مستويات المنصات المصنوعة من الحديد والخشب المطلية باللون الرمادي، وترسم الأحداث المفصلية والأمكنة (غرفة، أو مقهى، أو قارب) للشخصية المسرحية. يسمح هذا الخيار السينوغرافي للمتفرجين، بالغوص في عوالم الشخصية، الداخلية والخارجية. يتلاشى ذلك، عندما يبدأ عرض مقاطع مصورة للبحر، والطرقات، والمقاهي، والأزقة، والأطفال في طرابلس، في الوسط الخلفي للخشبة.
تركيا – تكلفة زراعة الأسنان بالفم الكامل قد تفاجئك تمامًا
زراعة الاسنان في تركيا
يطيح هذا الخيار الإخراجي بحالة الانغماس التي مهّد لها العرض. أقحمت كارولين حاتم الوسائط المتعددة (السينما هنا) لتكون ضمانة لتقديم الواقع أو شرحه، حتى صارت غالبية الأمكنة والفضاءات، وحتى الشخصيات (أي المرأة التي يحلم بها الممثل)، والمكنونات الداخلية، تتجسد على الشاشة بشكل واضح، مع إضافة ألوان وإيقاعات في المونتاج، لإضفاء لمسة فنية على الواقعية، كأن يتحول البحر الأزرق إلى أحمر قانٍ يجسد لون الموت والغرق. على يمين الخشبة، يقبع موسيقي العرض (أداء موسيقي: ربيع جبيلي)، يقطّع الفصول أو الأحداث، التي لا تجري في إطار زمني محدد. يعزف قطعاً تحمل حساسية تتماشى مع الحدث المأساوي، أو تكون غير متجانسة مع الصراع في بعض الأحيان. يبث موسيقى شرقية (صوفية) أو نغمات غربية، ويتمايل الممثل بجسده على ألحانها. لأي غرض استحضرت الموسيقى؟ الغالب أنها كانت بسبب إضفاء حساسية على العرض، وإعطاء تضارب وتناقض بين عالمين متصارعين، عالم الشمال، وعالم الجنوب، وبينهما جسد عالق، يرتدي جناحين ضخمين مصنوعين من الريش، ويحاول العبور نحو الحرية أو الأزلية (وإن كان خيار الجناحين ليس الوسيلة المثلى للتعبير عن ذلك). على مستوى الأداء التمثيلي. أظهر جوزيف عقيقي حرفية عالية في التعامل مع أدواته: الصوت واضح، الجسد لين، ولحظات الصدق عالية. لكن الشخصيات التي قدمها، من قبيل الكاتب السياسي المعارض، أو صاحبة الفندق، أو مسؤول الأوراق الثبوتية، قدمت بطريقة منمطة، وسطحية، وغير نابعة من دراسة معمّقة لما تمثله هذه الشخصيات. كنا نتوق، أيضاً، لرؤية طبقات متعددة من الشخصية التي يمثلها جوزيف عقيقي. هو مهاجر غير شرعي، سكير، متمرد، متألم، عالق، متأرجح، حالم، يبحث عن الحب الأزلي. لكن، أين لحظات الخوف في خضم كل ذلك؟ أين الضعف؟ أين الإرهاق الذي يحكم جسده المتآكل؟ تجسدت هذه اللحظات، تمثيلياً، في حالات السكر، أو الارتماء على الأرض، أو النوم على الخشبة، أو حالة الذهول والصمت، أو الصراخ والانفعال والركض، ما يرجّح كفة الأداء الخارجي على حساب الشعور العميق. رغم أن مشهد الهروب عبر الحدود اللبنانية السورية، مثلاً، كان صادقاً بوحشيته، والانفعالات تدعم كثافة الموقف، كما في مشاهد أخرى أيضاً. في كل الأحوال، ليس المراد تقديم الشخصية على أنها ضعيفة أو منكسرة وليس العكس.
أظهر جوزيف عقيقي حرفية عالية في مسرحية «ترانزيت طرابلس»
الشخصية السورية، لا تحتاج أن نظهر ضعفها وانكساراتها إلا بكثير من الأصالة والتجربة التي قد تصقل العرض. لذلك، ربما كانت «ترانزيت طرابلس» تحتاج إلى ممثل سوري، يعي فرادة اللهجة، وتعقيدات السياق السوري وخصوصيته، لينقل أصالة الألم والمعاناة والظلم الذي يتعرض له الشعب. لا يقلل ذلك من قدرات جوزيف عقيقي التمثيلية، وكفاءة كارولين حاتم في إعداده، ولكن «يظل المعيار الوحيد لتمثيل واضح وصحيح للمجتمع، هو في معرفة ما إذا كان المتفرجون يشعرون بأنفسهم ممثّلين سياسياً كمجموعة تمت لهم بصلة فعلية، وما إذا كان المسرح يعبّر عن وضعهم ويقدم حلولاً باستخدام أساليب التخيل وطرائقه» كما يقول باتريس بافيس. هل كان العرض مشابهاً لصورة الجمهور الذي شاهد العرض في بيروت؟ «ترانزيت طرابلس» عمل لبناني شائك وممتع. ومسرحة رواية آنا سيغرز، على يدي كارولين خاتم، تستحق المشاهدة لإعادة رسم الأسئلة عن أشكال السياسة التي تحكم منطقتنا، والتأمل في المأساة العالمية التي تحكم أوضاع المهاجرين في كل زمان ومكان.
* «ترانزيت طرابلس»: س:20:45 مساء حتى 24 آذار (مارس) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ الحجز في فروع مكتبة «أنطوان» و«أنطوان أونلاين»
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية