على الرغم من مماطلة قضاة «الدائرة التمهيدية» في «المحكمة الجنائية الدولية»، في إصدار مذكرتَي الاعتقال بحق رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه السابق، يوآف غالانت، لستة أشهر بعد رفع المذكّرة من قِبل المدّعي العام الدولي، كريم خان، في 20 أيار، والذي جاء بدوره بعد سبعة أشهر من تمادي العدو الإسرائيلي في ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، جاء وقع قرار القضاة إصدار أمرَي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، أمس، مدوّياً.
وفيما أتى هذا القرار معاكساً للضغوط التي مارستها دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فضلاً عن حملات الضغوط «السرية» التي فعّلتها الحكومة الإسرائيلية إلى جانب عدة أدوات للحؤول دونه – حسبما أشارت إليه صحف غربية وإسرائيلية في وقت سابق -، يُعَد حكم «الجنائية» بذاته انقلاباً تاريخياً على «النظام الدولي» القائم على الاستنسابية والانتقائية. ومن شأن ذلك أن يعمّق الخلافات بين مكوّنات الغرب نفسه، الذي يعتمد على استخدام «القواعد» التي وضعها «الرجل الأبيض» في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، لخدمة مصالحه وحمايتها.
والواقع أن المحكمة ذاتها، التي تعتمد على «ميثاق روما الأساسي» منطلقاً لها، لا تتمتع بسلطات تنفيذية، ولا توجد لديها شرطة لتنفيذ أوامر الاعتقال، غير أن جميع الدول الموقّعة على الميثاق المشار إليه، معنية بتنفيذ قراراتها، علماً أن تلك الدول تبلغ 124، ومن ضمنها جميع الدول الأوروبية تقريباً (43 دولة)، وأكثر من نصف الدول الأفريقية (33 دولة)، ودول أميركا الجنوبية، وأستراليا، وكندا، فيما الولايات المتحدة والهند والصين ليست أعضاء في الاتفاقية. وبالتالي، فإن أيّ رحلة يقوم بها نتنياهو أو غالانت إلى إحدى الدول الأعضاء قد تعرّضهما لخطر الاعتقال.
وأثار قرار المحكمة عاصفة من ردود الفعل في الكيان، وسط وحدة في الموقف بين الائتلاف الحكومي والمعارضة، ومخاوف تحدّثت عنها «القناة الـ13» العبرية لدى جيش العدو، من أن يؤدي قرار «الجنائية» إلى إصدار مذكّرات اعتقال بحق قادة عسكريين ومقاتلين. ومن جهته، غزل نتنياهو البيان الصادر عن مكتبه، على جري العادة، على منوال «معاداة السامية» الذي لطالما كان سيفاً سليطاً يرفعه الكيان الإسرائيلي وداعموه في وجه كل من ينتقد الإجرام الإسرائيلي في الغرب. وقال نتنياهو إن «القرار المعادي للسامية الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية يمكن مقارنته بمحاكمة دريفوس، وسينتهي بالطريقة نفسها»، في إشارة إلى قضية النقيب اليهودي ألفريد دريفوس الذي دينَ بالخيانة في القرن التاسع عشر في فرنسا. وبدوره، اعتبر غالانت أن القرار الصادر بحقه يشكّل «سابقة خطيرة ضد الحق في الدفاع عن النفس والحرب الأخلاقية، ويشجع الإرهاب القاتل». وأضاف أن القرار يساوي بين «دولة إسرائيل» و»قادة حماس» الذين وصفهم بـ»القتلة». ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، بدوره، أمر الاعتقال بـ»العبثي»، قائلاً إن «هذه لحظة سوداء للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فقدت فيها الأخيرة كل شرعية لوجودها ونشاطها. وإن المحكمة أداة سياسية في خدمة العناصر الأكثر تطرفاً الذين يعملون على تقويض السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط».
أما وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، فرأى أنه على الكيان «مقاطعة محكمة العدل الدولية، واتخاذ قرارات حاسمة ضد كل من شارك في الدعوى، وأولهم الفلسطينيون». وبالمثل، علّق وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، على القرار الذي رأى فيه أنه «معاداة للسامية الحديثة تحت ستار العدالة»، معتبراً أن الرد على ذلك «هو فرض السيادة على جميع أراضي يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة) والاستيطان في جميع أنحاء البلاد». كما دعا إلى قطع العلاقات مع السلطة الفلسطينية التي وصفها بـ»الإرهابية» إلى جانب فرض العقوبات عليها. كذلك، علّق الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، على القرار بأنه «يوم مظلم على العدالة والإنسانية»، متهماً المحكمة بالتحيّز إلى جانب «الإرهاب والشر»، وبأنها حوّلت العدالة الدولية إلى «مادة للسخرية الدولية».
في المقابل، رحّبت حركة «حماس» بالقرار، معتبرة إياه خطوة «تاريخية مهمة». وقالت الحركة، في بيان، إن «هذه الخطوة (…) تشكّل سابقة تاريخية مهمة، وتصحيحاً لمسار طويل من الظلم التاريخي لشعبنا»، من دون الإشارة إلى أمر الاعتقال الذي أصدرته المحكمة بحق القائد العسكري للحركة، محمد الضيف، باعتباره مساواة متهافتة بين الجلاد والضحية. ودعت «حماس» «كل الدول حول العالم إلى التعاون مع المحكمة في جلب مجرمي الحرب الصهاينة، نتنياهو وغالانت، والعمل فوراً لوقف جرائم الإبادة بحق المدنيين العزّل في قطاع غزة».
من جهتها، أصدرت السلطة الفلسطينية، بياناً رحّبت فيه بالقرار الذي «يعيد الأمل والثقة في القانون الدولي ومؤسساته، وفي أهمية العدالة والمساءلة وملاحقة مجرمي الحرب». واللافت أنها فيما طالبت «جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية وفي الأمم المتحدة بتنفيذ قرار المحكمة وتسليم المجرمين للقضاء الدولي»، فهي شدّدت على «ضرورة تنفيذ سياسة قطع الاتصال واللقاءات مع المطلوبين الدوليين نتنياهو وغالانت».
وبدا غياب تفاعل عدد من الدول العربية مع القرار، لافتاً، في الوقت الذي دعا فيه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، «المجتمع الدولي» إلى عدم الانتقائية في قبول القرارات الدولية. وقال إن «هذه مؤسسة دولية، ثمة التزام باحترام قراراتها من كل الدول الأعضاء فيها»، مشيراً إلى أن «الشعب الفلسطيني يستحق العدالة، المؤسسات القانونية وُجدت لتحاسب ولتلبي متطلبات العدالة، وبالتالي لا بد من التعامل مع هذا القرار باحترام». أما إقليمياً، فوصف وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، إصدار أوامر الاعتقال بأنه «مرحلة بالغة الأهمية». وكتب فيدان على منصة «إكس»: «هذا القرار هو مرحلة بالغة الأهمية بهدف إحالة المسؤولين الإسرائيليين الذين ارتكبوا إبادة بحق الفلسطينيين أمام القضاء».
سيرياهوم نيوز١_الاخبار