كمال خلف
في لبنان الذي يسجل عودة فاعلة الشارع، بدت للكثير من المراقبين امتدادا لحركة 17 تشرين العام الماضي، إلا أن ما يحدث الآن في شوارع بيروت وطرابلس تحديدا مختلف نوعا ما.. إذ بدأت مجموعات تتحرك بشكل منظم وتعتمد العنف في تحركها لا يخلو من خطاب طائفي، ولعل ما جرى في طرابلس من منع شاحنات تابعة لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة تستخدم لبنان للعبور إلى سورية بسبب الأوضاع المأساوية هناك، يشكل دليلا أن وقف وأحراق بعض هذه الشحنات ومنعها من العبور ليس سوى قرار سياسي من خارج لبنان.
ومن باب التحليل كمراقبين يمكن رسم المشهد اللبناني الراهن والجديد بعيدا قليلا عن أحقية حركة الشارع الرافض الأوضاع الاقتصادية المزرية وهو حراك له مشروعية ويعتبر حقا للشعب اللبناني كان يجب أن يحصل له منذ زمن بعيد.
لكن دوما ما تدخل قوى سياسية محلية أو خارجية للاستفادة من الأوضاع فالواقع العملي في منطقتنا والعالم ربما يقول إن أي دولة تهتز وتبدأ بفقدان السيطرة فإنها تكون عرضة لتدخلات من خارج الحدود. ولذلك يبدو المشهد الراهن في لبنان خارج إطار التظاهرات المطلبية قائم على بداية تنافس نفوذ لقوى إقليمية. بدأت تدخل على حركة الشارع المحق وترسم خططها ومصالحها بل وتصنع شارعها وتصيغ له المطالب.
في لبنان ومن موقعنا كمراقبين نجد أن ثمة مؤشرات بدأت تبدو أوضح لدخول تركي إلى لبنان ربما لأول مرة، يتمظهر بشكل واضح في طرابلس، حيث بات لتركيا أنصار في الشارع يتحركون تحت غطاء غير مباشر حتى الآن من أنقرة. ويمتد ذلك النفوذ إلى بعض المناطق السنية في البقاع وبنسبة ضئيلة في بيروت.
بدأت أنقرة تدرك أهمية طرابلس لبنان بالنسبة لمصالحها في المتوسط، وسمح لها تراجع النفوذ السعودي على طرابلس وعلى سنّة لبنان عموما بعد الجفاء مع سعد الحريري لسد الفراغ وبلورة شكل من أشكال النفوذ بدأ من سنتين ولكنه اليوم يبدو في مرحلة الولادة على أرض الواقع.
قد نأخذ ردة فعل أنصار تركية في لبنان على شتم الاعلامي اللبناني ” نيشان ” للرئيس أردوغان مؤشرا مهما في هذا السياق. خاصة ان في بلد مثل لبنان يشتم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في كثير من الأحيان ويعتبر ذلك حرية تعبير أقصى مايمكن اللجوء إليه في هذه الحالة هو محكمة المطبوعات. ولا يبدو كذلك منع شاحنات الأمم المتحدة من العبور من طرابلس إلى سورية عملا عفويا بعيدا عن قرار سياسي من خارج الحدود.
في المقابل يبدو أن السعودية وحليفتها أبو ظبي منتبه إلى تزايد النفوذ التركي في لبنان، ولهذا بدأت تستدرك خروجها من دائرة الفعل إلى التعويض عبر خلق حالة جديدة متمثلة بشقيق سعد الحريري بهاء. ويبدو بهاء في سباق مع الوقت في خلق حالة شعبية تستعيد الإمساك بالطائفة السنية. الا ان اختيار بهاء كأول تحرك شبه علني له في الشارع عنوان سلاح المقاومة مقدرا أن ذلك يمكن أن يشد عصب الطائفة ويحشد له شعبية في الشارع. إذا كان السيد بهاء فكر بذلك فعليا ونحن هنا نحلل لا أكثر فنعتقد أنه دخل من الباب الخاطيء لأن ذلك سوف يجعل القوى صاحبة النفوذ في لبنان تقترب من بعضها وتتفق على تحجيمه خاصة أن الجميع يدرك أن هكذا توجه غير واقعي وغير مجد. إلا إذا أراد بهاء والمحور الذي يمثله جلب الطرف الأمريكي لصالحه في صراع النفوذ، في هذه الحالة المراهنة على موقف داعم من الولايات المتحدة غير مضمون بتاتا.
المؤشر الحقيقي لاتضاح شكل المحاور المتصارعة في لبنان يعتمد على وضع الدولة اللبنانية، فكلما تماسكت الدولة واستطاعت ضبط الوضع ومعالجة الأزمة الاقتصادية و المعيشية ونظمت حركة الشارع بما يضمن خروج الفئات الشعبية المتضررة من الأزمة للتعبير عن مطالب واضحه تدفع الدولة إلى الإصلاح لا إلى التفكك فإن شكل التدخل الخارجي سيبقى كامنا ومحدودا. وبالعكس في حال عجز الدولة وضعفها وتفككها فإن بوابة التدخل الخارجي ستكون أوسع وأكثر وضوحا. وقد عملنا التاريخ والتجربة أن الدخول الخارجي الواضح على أي بلد يعني اقتتالا دمويا وتدمير وتقسيم وويلات ولنا في ليبيا مثالا ليس وحيدا..
(سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 16/6/2020)