محمد نور الدين
غاب، في الأشهر الأخيرة، بصورة شبه كلّية، الحديث عن تطوّر مسار العلاقات بين تركيا وسوريا، ولا سيما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التركية، في أيار الماضي. وبدا، كما لو أن «فقاعة» الرغبة في المصالحة التي أَطلقها الجانب التركي منذ سنة ونصف السنة، لم تكن تنظر إلى أبعد من أنف تلك الانتخابات، حتى إذا فاز رجب طيب إردوغان بالرئاسة من جديد، دخلت تلك الرغبة مجدّداً في غياهب النسيان. ومع ذلك، فإن المواقف التركية المتمحورة حول المسألة نفسها، ظلّت تتوالى على لسان أكثر من مسؤول رفيع المستوى، وإنْ في سياق عَرَضي. وفي هذا الجانب، يمكن الإشارة إلى موقفَين: الأول، لوزير الدفاع، ياشار غولر، الذي قال، في ندوة صحافية في الـ17 من كانون الأول الماضي، إن «تركيا تواصل نشاطها في تقديم المساعدات الإنسانية وإقامة بنى تحتية من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا. وهدفنا الوصول إلى حلّ سياسي على أساس قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254 (لعام 2015)»، مذكّراً مرّة أخرى بأن بلاده «تدعم وحدة الأراضي السورية، وتعمل على التنسيق والحوار والتواصل في اتّجاه ضمان سلام بنّاء في المنطقة». وعدّد غولر ما يمكن اعتباره شروطاً مسبقة قبل المبادرة إلى التطبيع مع سوريا، وهي: «اعتماد دستور شامل؛ إجراء انتخابات حرّة؛ وضمان الأمن الحدودي». أمّا الموقف الثاني البارز، فجاء على لسان وزير الخارجية، حاقان فيدان، في جلسة تقييمية للعام الماضي مع الصحافيين، يوم الثالث من الشهر الجاري. ووفقاً للوزير فإنّ «الأولوية الآن، هي عدم نشوء أيّ نزاع بين النظام والمعارضة. الصورة هي كما رسمناها في إطار اتفاق أستانا، والحفاظ عليها مهمّ». وعن سبب أهمية ذلك، قال: «أولاً، كي لا تحدث موجات هجرة جديدة؛ وثانياً، إن الهدوء يجعل الناس تنسى الكراهية وتتّجه نحو السلام والتفاعل، وهذا مهمّ؛ وثالثاً، إن أيّ صدام عسكري يوفّر مساحة جديدة لنشوء التنظيمات الإرهابية. لذا، فإن عدم حدوث صدامات يعطي فرصة للجهود الديبلوماسية».
يلقي هذان الموقفان اللذان جاءا في أقلّ من 20 يوماً، الضوء على حقيقة الموقف التركي من تطوّرات الأزمة السورية. فإضافةً إلى إسرائيل التي تحتلّ هضبة الجولان منذ 57 عاماً، والولايات المتحدة التي تحتلّ أراضي سورية في شرق الفرات منذ أكثر من عشر سنوات، فإن تركيا هي البلد الثالث المعني مباشرةً بالوضع في سوريا. فبين البلدَين حدود برية تقرب مساحتها من الـ911 كيلومتراً. وإذا نحّينا جانباً مسألة لواء الإسكندرون الذي ضمّته تركيا إليها بالاتفاق مع فرنسا منذ 85 عاماً، ولم يعترف زعماء سوريا بضمّه لا في حينه ولا بعدما نالت البلاد «استقلالها التام» عام 1946، فإن تركيا تحوّلت إلى أكبر طرف في «المسألة السورية» بعد نشوء الأزمة فيها في عام 2011؛ إذ دعمت علناً المعارضة السورية المسلّحة، وانتقلت بين عامَي 2016 و2019 بنفسها إلى احتلال أجزاء واسعة من الشمال الغربي، وبعضاً من الشمال الشرقي للفرات، حيث لا تزال قواتها موجودة.
أولوية تركيا ظلّت منصبّة، في السنوات الأخيرة، على مواجهة «حزب العمال الكردستاني»
وفي آب 2022، أعلنت تركيا، على لسان وزير خارجيتها، مولود تشاووش أوغلو، أنها مستعدّة لمصالحة مع سوريا للوصول إلى حلّ للأزمة، في ما اعتُبر تحوّلاً في نظرة أنقرة إلى الوضع عند جارتها. وتلت ذلك تصريحات من جانب إردوغان، وصولاً إلى عقد أكثر من اجتماع، بدءاً من نهاية ذلك العام، وحتى منتصف أيار 2023، عندما جرت الانتخابات التركية التي فاز فيها إردوغان بولاية ثالثة. ومن بعدها، اختفت محاولات المصالحة، ولم يَعُد يَسمع بها أحد، كما لو أن الرغبة فيها كانت مرتبطة بنتائج الانتخابات، حتى إذا كان الفوز حليف إردوغان، اعتَبرت أنقرة الموضوع منتهياً.
في المقابل، ظلّت أولوية تركيا منصبّة، في السنوات الأخيرة، على مواجهة «حزب العمال الكردستاني»، سواء في شمال العراق أو في شمال سوريا؛ لا بل إن وجود «قسد»، التي تعتبرها أنقرة امتداداً لـ«الكردستاني»، في شمال سوريا، هو الذريعة الأساسية التي افتتح بها الجيش التركي سلسلة عملياته العسكرية من «درع الفرات» و«غصن الزيتون» إلى «نبع السلام»، والتي احتلّ فيها أجزاء واسعة من الأراضي السورية. وتحوّل شرق الفرات وشمال العراق، بالنسبة إلى العمليات العسكرية التركية، إلى «مسرح واحد»، إذ لم تتوقّف الطائرات التركية عن انتهاك الأجواء السورية، بذريعة ضرب مواقع «الكردستاني» أو غيره. وآخر هذه الغارات، استهدف مواقع كردية في شرق الفرات قريباً من الحدود العراقية، على إثر هجوم شنّه مقاتلون تابعون للحزب على قاعدة عسكرية تركية في منطقة خاكورك في شمال شرق العراق، ما أدى إلى مقتل تسعة جنود أتراك، وهو المكان نفسه الذي كان الأكراد استهدفوه في الـ22 من كانون الأول الماضي، وأسفر عن مقتل 12 جندياً تركيّاً.
أمّا ثاني أولويات تركيا، فهي مواجهة مشكلة اللاجئين السوريين إلى تركيا، والذين قارب عددهم الأربعة ملايين. ومع أن هناك رأياً عاماً متزايداً معادياً للسوريين في تركيا، إلا أن اللاجئين هناك تحوّلوا إلى مادة استغلال سياسي من كلّ الأطراف الداخلية. وإلى اللاجئين، هناك مشكلة المسلّحين في إدلب والمناطق المحتلّة من قِبَل تركيا، فضلاً عن الترتيبات الأمنية المتعلّقة بالحدود بين البلدَين، فيما يزيد الاحتلال الأميركي لمناطق شرق الفرات من تعقيد الأوضاع.
لكن في سياق العلاقات المباشرة، والتي تعني تركيا وسوريا خارج تأثيرات الأطراف الأخرى، تأتي مواقف أنقرة الأخيرة لتسدّ الكوّة التي انفتحت في جدار الانسداد في العلاقات بين البلدَين. ويتّضح من مطالبة غولر بدستور وانتخابات، أن الأتراك يضعون شروطاً تعجيزية لا يمكن تحقيقها. أما تصريحات وزير الخارجية، وخصوصاً في ظلّ دخول عامل العدوان على غزة وانشغال جميع اللاعبين فيه، فهي لا تدلّ على أن في نيّة تركيا فتح صفحة جديدة مع سوريا، بل هي تعكس ارتياحاً لاستمرار «الستاتيكو» القائم. ولا يمكن على أيّ حال، وضع كلام فيدان عن «الهدوء والتفاعل ونسيان الكراهية»، إلّا في إطار «الشعرية» التي تقفز عن كل الوقائع المرّة المتعلّقة بدعم التنظيمات الإرهابية والأطماع التاريخية وتكامل الأدوار مع الولايات المتحدة وإسرائيل. والمحصّلة، أن الاحتلال مستمرّ وعدّاده يسجّل السنوات، والطريق إلى المصالحة، مسدود مسدود.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية