تستعد تركيا لمواجهة لحظة حاسمة وسط ترقّب الأوساط السياسية والشعبية حكماً قضائياً قد يغيّر مسار المشهد السياسي في البلاد.
ونظرت المحكمة الدستورية في تركيا منذ تأسيسها في 47 قضية لحلّ أحزاب سياسية، أُغلقت معظمها بعد الانقلاب العسكري عام 1981. وكانت الأحزاب التي نشأت عن الحركة الكردية والتيار الإسلامي الأكثر استهدافاً، كما أن “حزب العدالة والتنمية” نفسه واجه دعوى إغلاق عام 2008 ونجا بفارق صوت واحد.
اختبار للديموقراطية وفصل السلطات
وتتركز الأنظار على المحكمة المدنية 42 في أنقرة التي تنظر في دعوى تطالب ببطلان نتائج المؤتمر العام لـ”حزب الشعب الجمهوري” المنعقد في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، والذي أدّى إلى انتخاب أوزغور أوزيل رئيساً للحزب خلفاً للزعيم السابق كمال كليجدار أوغلو. ومن المقرر أن تصدر قراراً اليوم الإثنين بهذه القضية.
النزاع القضائي ليس مجرد خلاف بسيط بشأن الإجراءات، بل يمثّل اختباراً حقيقياً لمبدأ فصل السلطات في تركيا. وتتركز القضية حيال مزاعم بوجود مخالفات إجرائية أثناء المؤتمر الحزبي، بما في ذلك شكاوى تتعلق باختيار المندوبين وآليات التصويت.
وبرغم التصريحات المتتالية من قبل السلطة، وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي شدد على كون الدعوى قضائية وخلافاً داخلياً في الحزب المعارض، إلا أن الحكومة فشلت حتى الساعة في إقناع الجزء الأكبر من الرأي العام، الذي يرى في هذه الدعوى ومثيلاتها دوافع سياسية واضحة تهدف إلى إضعاف المعارضة وتهديد شرعية قيادتها المنتخبة ديموقراطياً.
وتبرز ثلاثة سيناريوات رئيسية بما يخص الحكم المرتقب صدوره من المحكمة؛ أكثرها خطورة هو الحكم “بالبطلان المطلق”، والذي يعني تجريد أوزيل من منصبه وعودة كليجدار أوغلو إلى رئاسة الحزب.
يرى منتقدو هذا الخيار أنه يفتقر إلى أساس قانوني في قانون الأحزاب السياسية التركي، بينما يعتبره أنصار كليجدار أوغلو وسيلة لاستعادة السلطة.
هذا السيناريو قد يدفع الحزب إلى أزمة شرعية غير مسبوقة، في ظل رفض أنصار أوزيل أي قيادة مفروضة قضائياً، وقد ينتهي إلى حدوث انشقاق داخل الحزب مع ترجيح الكفة لأوزيل بثقل كبير، ما يشير إلى احتمالية زوال “حزب الشعب الجمهوري” على حساب الحزب الجديد.
السيناريو الثاني هو الحكم بتعيين لجنة وصاية محايدة لتنظيم مؤتمر جديد خلال 45 يوماً. هذا الخيار، برغم أنه يبدو محايداً، لكن خطورته تكمن في إمكانية توظيفه لخدمة أجندات سياسية، خاصة إذا كانت اللجنة المعيّنة مقربة من السلطة الحاكمة.
ويرى الحزب أن مثل هذا الحكم سيمثّل انتهاكاً لاستقلالية الأحزاب السياسية المنصوص عليها في الدستور.
أما السيناريو المتوقّع من قبل مصادر “حزب الشعب الجمهوري”، التي تواصلت معها “النهار”، فهو تأجيل المحكمة لقرارها وإبقاء الوضع على حاله بهدف زيادة التوترات داخل الحزب وتحريض حالة عدم اليقين السياسي. هذا السيناريو قد يكون وسيلة لامتصاص غضب الشارع وتجنّب المواجهة المباشرة.
في المقابل، يطالب “حزب الشعب الجمهوري” المحكمة برفض الدعوى، إذ يرى العديد من الخبراء القانونيين أن المحاكم المدنية لا تملك صلاحية التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية، خاصة بعد مصادقة المجلس الأعلى للانتخابات على شرعية المؤتمر.
تجربة إسطنبول: الوصاية كـ”بروفة” للانقلاب القضائي
بدأت أزمة “حزب الشعب الجمهوري” في التصاعد منذ تصدّر الحزب الانتخابات المحلية لعام 2024، وفوزه بغالبية البلديات الكبرى في البلاد. ويرى أنصاره أن هذه الانتصارات أغضبت السلطة وأدت إلى حملة قمع ممنهجة ضد قادة الحزب.
تم اعتقال عشرات من رؤساء البلديات والمسؤولين المنتمين لـ”الشعب الجمهوري”، كان أبرزهم رئيس بلدية إسطنبول السابق أكرم إمام أوغلو. وأثارت هذه الاعتقالات احتجاجات واسعة، اعتبرها الحزب محاولات لإضعاف المعارضة وإسكاتها. وتتراوح التهم الموجهة إليهم بين الفساد و”الارتباط بالإرهاب”، وهي تهم ترى غالبية الأتراك أنها ذات دوافع سياسية.
كما أقالت محكمة في إسطنبول قبل أسبوعين قيادة فرع الحزب وعيّنت لجنة وصاية برئاسة غورسل تكين. هذه الخطوة التي وصفها الحزب بأنها “بروفة” لما قد يحدث في أنقرة، أدت إلى مواجهة متفجرة مع الشرطة واعتصامات، في الوقت ذاته اتخذ الحزب خطوات تكتيكية مثل نقل مقره يومياً لإبطال سلطة الوصي، في إشارة إلى أن المقاومة لن تكون قضائية فقط، بل شعبية وسياسية أيضاً.
ومنذ توليه القيادة، برز أوزيل كمعارض شديد لأردوغان. نجح في حشد الآلاف من أنصاره عبر تجمعات شعبية، واصفاً الأزمة بأنها “معركة من أجل البقاء الديموقراطي”. ويُنظر إلى تحديه العلني على أنه نقيض لموقف كليجدار أوغلو المتراخي في مواجهة أردوغان، ما أكسبه شعبية كبيرة لدى الناخبين الشباب والعلمانيين في المدن الكبرى.
في المقابل، التزم الزعيم السابق للحزب الصمت المحسوب، رافضاً إدانة سيناريو “البطلان المطلق”. تصريحاته التي تلمّح إلى استعداده للعودة أثارت قلقاً داخل الحزب، واعتبره محللون سعياً من قبله لتقديم نفسه كـ”قوة استقرار” في خضم الفوضى، بينما يتهمه آخرون بالتواطؤ مع السلطة لإضعاف أوزيل.
الاقتصاد تحت الضغط: الليرة تهبط والمستثمرون قلقون
لا تقتصر تداعيات هذه الأزمة على “حزب الشعب الجمهوري” فحسب، بل تمتد لتؤثر على المؤسسات الديموقراطية والاقتصاد التركي ومكانته الدولية.
ويرى الخبراء أن هذه الأحداث تمثل “منعطفاً حرجاً في تاريخ الديموقراطية التركية”. فالتاريخ الديموقراطي التركي المتقطّع لم يشهد على هذا الحجم من القمع ضد المعارضة، والتضييق على حزب صوّت له نصف الناخبين في البلاد، معتبرين ذلك مستوى خطيراً حتى بالنسبة لديموقراطية هشة مثل تركيا، ويحمل خطر تراجعها من نظام هجين إلى نظام سلطوي كامل.
وتؤجج الأزمة الانقسامات داخل “حزب الشعب الجمهوري” نفسه، بين أنصار أوزيل وكليجدار أوغلو. كما أنها تزيد من الاستقطاب السياسي في البلاد، وتدفع بالمعركة بين السلطة والمعارضة إلى مستويات غير مسبوقة.
كما أن تعطيل عمل البلديات التي يقودها “الشعب الجمهوري”، خاصة في المدن الكبرى، قد يؤثر سلباً على الخدمات المقدمة للمواطنين، ما يزعزع ثقة الناخبين في مؤسسات الدولة.
في الجانب الاقتصادي، أدت الأزمة السياسية إلى تقلبات في الأسواق المالية. على سبيل المثال، هبطت قيمة الليرة التركية بنسبة 2% بعد تعيين الوصي على فرع الحزب في إسطنبول. ويخشى المستثمرون من أن يؤدي أي حكم ضد أوزيل إلى مزيد من عدم الاستقرار، ما قد يفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد بالفعل.
ويربط الخبراء بين الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي. كلما زادت حدّة المواجهة بين الحكومة والمعارضة، زادت مخاطر هروب رؤوس الأموال وتباطؤ الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما قد يعيق جهود الحكومة في جذب الاستثمار وتحقيق النمو الاقتصادي.
وتُظهر هذه الأزمة مدى هشاشة المؤسسات الديموقراطية في تركيا. وبغض النظر عن الحكم الذي سيصدر، فإن تداعيات هذه الأزمة ستستمر في تشكيل مستقبل السياسة والاقتصاد في البلاد لسنوات مقبلة. فهل ستنجح المعارضة في الصمود أمام الضغوط القضائية والسياسية، أم أن هذا الحكم سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من السيطرة الحكومية على الحياة السياسية؟
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار