آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » تركيا في أوكرانيا: الوقوف على التلة!

تركيا في أوكرانيا: الوقوف على التلة!

د. بسام أبو عبد الله

بعيداً عن الانجرار وراء المواقف العاطفية التي قد يطلقها البعض هنا وهناك تجاه مواقف تركيا الحقيقية بشأن العملية العسكرية التي أعلنت موسكو عنها، فإنه لابد لنا من الدخول بعمق أكبر في تفاصيلها لتحليل أبعاد هذا الموقف، وفهمه بشكل أوسع، خاصة وأن طرق التحليل التي قد يتبعها البعض تعتمد على اللونين الأبيض أو الأسود، أو منهج الحب والكراهية، وكلاهما لا يوصلاننا لفهم حقيقي لموقف تركيا أو غيرها من الدول.

قد تبدو تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان لصحيفة «يني شفق» التركية إثر عودته من جولته الإفريقية بداية لفهم الموقف التركي إذ قال: «إن اتخاذ تركيا موقفاً حاسماً في هذه اللحظات الانفعالية أمر خاطئ، يجب أن نتصرف بدقة وحساسية عالية، نحن عضو في حلف شمال الأطلسي، ولكننا على علاقات متطورة مع أوكرانيا وروسيا»، وتابع: «إننا لا يمكن أن نكون إلى جانب طرف دون آخر، يقولون لنا: تخلوا عن أوكرانيا. لا لن نتخلى، ويقولون لنا تخلوا عن روسيا: لا لن نتخلى. والسيناريو الأفضل لتركيا هو أن يتفق البلدان».

كلام أردوغان يوحي بوضوح شديد أن تركيا لن تنجر خلف الحملة الغربية ضد روسيا لأسباب سوف نشرحها لاحقاً، وبدليل أن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أكد الثلاثاء الماضي أن بلاده لا تميل لفرض عقوبات ضد روسيا، ولن تشارك في مثل هذه العقوبات بشكل عام من حيث المبدأ، وهذا التصريح لاقاه من جانب آخر الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قولان بقوله: «تركيا لا تخطط للالتحاق بالعقوبات ضد روسيا حفاظاً على العلاقات التجارية الوثيقة، ويجب أن نتصرف مع مراعاة أولويات بلادنا، لأنه لابد من وجود طرف قادر على التفاوض مع روسيا، ليقول: إن أنقرة لا تعتزم اتخاذ إجراءات من شأنها الإضرار بروسيا».

وضمن إطار هذا الموقف أدانت تركيا العملية العسكرية الروسية، واعتبرتها أنها غير مقبولة، وهي تنتهك القانون الدولي، وضربة قوية للسلام والأمن الدوليين، حسب أردوغان، الذي دعا من ناحية أخرى لحل كل المشكلات عن طريق تطبيق اتفاقيات مينسك.

والسؤال الآن: لماذا تنحو تركيا هذا المنحى؟

بتقدير العديد من الخبراء المتابعين للشأن التركي ومن خلال رصد ما يكتبه أهم الكتاب الأتراك يمكن لي أن أرسم خريطة لتوزيع القوى السياسية في تركيا بناءً على مواقفها من الحرب الأوكرانية حيث تتوزع وفق ما يلي:

• القوى المؤيدة لروسيا: تضم حزب وطن القومي العلماني بزعامة دوغو بيرنتشيك وهو حزب يؤيد سورية أيضاً، ووقف معها طوال مدة الحرب ومازال، وحزب اليسار الديمقراطي، الذي كان يتزعمه بولنت أجاويد رئيس وزراء تركيا الأسبق، وحزب تركيا المستقلة بزعامة حيدر باش الذي خلفه ابنه حسين باش بعد وفاته، وهذه العائلة من العائلات الغنية في تركيا، وكان باش الأب مسؤول حزب السلام القومي، حزب نجم الدين أربكان، في السبعينيات في منطقة البحر الأسود ولدى هذا الحزب تسع قنوات تلفزيونية وصحف، إضافة للحزب الشيوعي التركي، وحزب استقلال الشعب، وعلى الرغم من أن البعض يرى في هذه الأحزاب غير ممثلة في البرلمان، لكنها تتمتع بدينامية حركية في الشارع التركي، والنقابات والاتحادات، وتؤثر على الرأي العام عبر محطاتها التلفزيونية وصحفها.

• القوى المعارضة لروسيا: وتضم كل قوى المعارضة التركية من حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كيليتشدار أوغلو، إلى الحزب الجيد بزعامة ميرال أكشنير إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وحزب المستقبل بزعامة أحمد داود أوغلو، وحزب الدواء بزعامة علي باباجان، ونضيف لهم حركة فتح اللـه غولين المحظورة، وحزب السعادة الإسلامي بزعامة تميل كاراما اللـه أوغلو، وهؤلاء يعتبرون أن حلف شمال الأطلسي ليس ضماناً للأمن القومي التركي فقط، بل هو ضمان للديمقراطية التي قضى عليها أردوغان، ولذلك يعلنون في محطاتهم التلفزيونية وصحفهم تأييدهم للولايات المتحدة ووقوفهم ضد أي تعاون عسكري مع روسيا، ويعلنون أنه حال وصولهم للسلطة سوف ينهون عقود صواريخ إس 400، ويوقفون عقود محطة الطاقة النووية التي تبنيها روسيا في مدينة مرسين على شاطئ المتوسط، باختصار فإن المعارضة التركية أطلسية بامتياز، إذ قام أحد نواب حزب الشعب الجمهوري برفع دعوى أمام المدعي العام التركي ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والقيادة الروسية، كنوع من الاستعراض بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، متناسياً جرائم بلاده في سورية ودعمها للإرهاب القاعدي! في حين أن صحيفة قرار القريبة من أحمد داود أوغلو وعلي بابا جان عنونت صفحتها الأولى بـ«عُد إلى بلادك يا فلاديمير»! ودعت ميرال أكشينر لعودة تركيا لمحورها القديم!

• أما مواقف الائتلاف الحاكم في تركيا: أي حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، فإن قياداته تعلن الوقوف على قدم المساواة بين الطرفين، وتدعو لحل الأزمة سلمياً عبر المفاوضات، ورفض المشاركة بالعقوبات ضد روسيا، مراعاة لمصالح تركيا.

وضمن هذا الائتلاف هناك جناحان:

جناح يطالب بضرورة التعاون والتنسيق مع أميركا وإسرائيل والناتو، ويدعو لعدم الاعتراف بضم القرم، واستقلال دانيتسك ولوغانسك الروسيتين، ورفض ما يسمونه عدواناً روسياً.

وجناح آخر: يهاجم الناتو ويعتبر مؤسساته دموية وخائنة، ولا يمكن الاعتماد عليها ويشيرون بمحاولات الانقلاب على أردوغان عام 2016 كدليل على عدم الثقة بالناتو والولايات المتحدة.

أنقرة كغيرها من العواصم تعكس هذا الانقسام الحاد في العالم تجاه التحولات التي تجري، ولكنها تعمل على مراعاة مصالحها كبلد جسر بين آسيا وأوروبا، ذلك أن قراءة أولية لحجم مصالحها مع روسيا توضح لنا لماذا أخذت هذا الموقف الذي يحمل مخاطر، وفرصاً في الوقت نفسه، فتركيا ستتحول بعد إغلاق خط الغاز «التيار الشمالي2» إلى أحد أهم الممرات الإجبارية للغاز إلى أوروبا عبر «السيل التركي» من روسيا عبر البحر الأسود إلى شرق اسطنبول الذي شارف على النهاية، ولديها حجم تجارة مع روسيا يصل لـ36 مليار دولار منها 28 مليار دولار نفط وغاز مستورد من روسيا، ما يشكل 34 بالمئة من الغاز، إضافة لـ10 بالمئة من كميات النفط التي تستوردها، أضف لذلك 65 بالمئة من حاجتها من القمح، وحوالي 4.5 إلى 5 ملايين سائح يضخون 6 مليارات دولار في شرايين الاقتصاد التركي المتعب، وأما استثمارات تركيا في روسيا فتصل إلى 21 مليار دولار تتوزع إلى 150 مشروعاً، وخاصة في مجال الإنشاءات، يضاف لها تصدير المنتجات الزراعية، ومحطة الطاقة النووية وعلاقات التعاون العسكري، وعلى المقلب الأوكراني فالمعلومات تشير إلى 7 مليارات دولار كحجم تبادل تجاري، و15 بالمئة من قمح تركيا، وسياحة بحدود 3 ملايين سائح، وسوق لتصدير السلاح التركي.

من هنا يمكن أن نفهم أكثر لماذا اتخذت تركيا هذا الموقف، كما أن كبار الكتاب الأتراك غالباً ما يعكسون كواليس السياسة التركية وما لا يقوله السياسيون، فها هو رئيس تحرير الـ«ـيني شفق» إبراهيم قره غول الناطقة بلسان النظام الحاكم، يرى في مقال له بتاريخ 1 آذار الجاري أن الحرب في أوكرانيا هي حرب البحر الأسود، وأن أميركا وبريطانيا تحاولان جر تركيا إلى هذه الحرب بسرعة، ويرغب الغرب إشعال حرب تركية روسية عبر البحر الأسود، ولا ينبغي أن تكون هناك حرب بين تركيا وروسيا، وحتى لو كانت تركيا دولة في حلف الناتو، لأن الحرب الروسية التركية ستخرج البلدين من المعادلة العالمية وستؤدي لتقسيمهما.

على تركيا، يقول قره غول، أن تبحث عن مصالحها لأن الغرب لا يؤتمن! وعلى هذه النغمة يعتبر كتاب آخرون أن «أوكرانيا سقطت» ولن يفعل الغرب شيئاً، والاتحاد الأوروبي والناتو منهاران، لكن الرأي الأقرب للسياسة التركية يقول في الصحيفة نفسها: إن تركيا لا يمكن أن تعتمد على الغرب، ولا أن تثق بروسيا، وأمامها طريق ثالث وهو زيادة اعتمادها على نفسها، وتنمية قوتها الذاتية، وهذه الآراء تخلص للقول: إن زمن الاعتماد على الغرب قد ولى.

وإذا كانت تركيا تجلس على التلة تراقب ما يحدث، فإنها لا شك أنها تحلل ما يجري، وترى التحولات الحاصلة التي تقول إن عالم ما بعد أوكرانيا غير ما قبله، أليست السعودية بالاتجاه نفسه، والإمارات كذلك! العالم يتغير فعلاً، وبوتين يفرض المعادلات الجديدة على الرغم من هستيريا الغرب وجنونه، والكل يبحث عن مصالحه في هذا العالم الجديد.

سورية ستكسب مع انتصار روسيا في أوكرانيا، ذلك أن حديث روسيا مع تركيا وغيرها سيختلف ما بعد أوكرانيا حكماً، لأننا الجناح الآخر على المتوسط الذي يحصن الأمن القومي الروسي الآن ومستقبلاً، ومن هنا فإن وقوفنا مع موسكو أكثر من ضروري وهام، إذ لا حياد بعد الآن في هذا العالم المتغير والجديد، فمن أرضنا سيولد هذا النظام الجديد، ألم ندفع ثمناً غالياً من أجل ذلك؟ وإذا كانت تركيا تقف على التلة بانتهازيتها المعروفة لكنها تدرك أن سورية ستكون الساحة التي ستدفع فيها أثمان ما بعد أوكرانيا!.

(سيرياهوم نيوز-الوطن٤-٣-٢٠٢٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الديناصور الإسرائيلي الثقيل وحزب الله الرشيق ٠ مالم يتوقعه الديناصور ٠

نارام سرجون         صار من الواضح ان قبعة الساحر نتنياهو لم يعد فيها أي قدرة على ادهاش الحضور والجمهور .. فاذا نظرنا ...